تتحجر الدموع في المقل المحزونة وتنطفىء أشعة الحزن تحت ظلّ الجفون التي اعتادت السهر في موقع متقدّم في خندق أمامي.
وتفيض الدمعات الحقيقية في بئر الحزن الدفين .
هل يبكي الرجال؟
سؤال قد يستنكره بعض الناس،ربما ماتت قلوبهم ،سؤال يتبدل معناه ومفهومه مع تقدّم العمروتطور المعرفة،
فهل تراهم يبكون ؟!
أجل يبكي الرجل ،الرجل يبكي بكاء جواد عربي أصيل أردى الزمان فارسه على يد صغير تطاول على مقامات الكبار،
يبكي بكاء عجوز حملت ولادات أطفال قومها كلهم وشهدت أولى صرخاتهم وهم يستقبلون أول شعاع نور، وعاشت أمداً طويلاً لتشهد موتهم واحداً تلو الآخر في ميادين العزة والفخار ، وهي تنوء بثقل سنوات البناء والمحبة…
يبكي بكاء من شهد هزيمة جيشه وضياع مدنه وأرضه على يد من لم يستطيعوا الحفاظ على ملكها ، كما فعل عبدالله الصغير ، لتبقى لعنة أمه تطارده بعد الموت ، ويتناقلها الأجيال ، جيل يتبعه جيل .
يبكي بكاء عجول على بو تطيف به
لها حنينان ، إقبال وإدبار.!
فهل بعد هذا تتحجر المدامع؟
أعرف ذلك المحارب الذي بكى عندما دنس الصهاينة بيروت وقتلوا النساء والأطفال في صبرا وشاتيلا ، لكن بكاءه كان كما الحجر الصلد.
ورأيته وعشته باكياً بعدها حين دخلت جحافل الغزو الأميركي بغداد ،وأثبتت منظر تلك الدبابة اللعينة على جسر الجمهورية فوق دجلة لتكون صورة الاحتلال تقهر كلّ من يراها ، فجاد دمعه حاراً محرقاً تجاويف القلب وليمتنع على النوم والرقاد بعدها،
وهو بكى كما الثكالى حين عاش الزمن الرديء والأخ يقتل أخاه ويتفنن في تعذيب صغاره ، فجاء بكاؤه بارداً مبحوحاً بلا صوت ولا حتى أنين ، فهل بعد هذا البكاء بكاء ؟
بكاء الكبار لا يصدر صوتاً ولا يسمعه المتابعون بآذانهم ، ولا يستطيعون التقاط لحظات الضعف عندهم ، فوحدهم أصحاب النفوس المرهفة والأحاسيس الصادقة يشعرون بتلك المواقف الصعبة التي يصعب وصفها ، ووحدهم يعرفون أن الكثير من الآباء يعيدون الدموع من الحدقات المحمرة إلى جوف العين فلا يبدو ضعفهم ولا تنهمر دموعهم .
البكاء حيلة العجز ، فأي حال للكبار من أصحاب المواقف حين يعجزون عن الفعل.