أرواحٌ تطالبُ بالعدالة.. في «مصانع للملائكة»

هفاف ميهوب
لأنّ “غزّة” كانت وما زالت، الحقيقة التي يسعى العدوّ الصهيوني لاغتيالها بطريقةٍ وحشية، ولأنها ذاكرتنا المسكونة بنزيفِ ماضٍ، أورثها مفردات النّار والمقاومة، فاشرأبّت كرامةً لاتَهرَم ولا تُهزَم، ولا تموت أبداً، بل تبقى دوماً حيّة.
لأنها كذلك، نستدعي ما كان الصحفي الإيطالي “فيتوريو أريغوني” قد وثّقه من آلامها.. الناشط الذي اختار وبعد إقامته فيها، وعمله في حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، أن يكون غزّاوياً يروي أرضها بدمائه، ومعاناتها بكلماته:
“غزّة كناية عن الإنسانية التي لا تريد أن تغرب شمسها، في صمتِ وعارِ الذين تركوا أنفسهم تنحدر نحو الانقراض.. غزّة لم تُصبح بعد، كلّها أرضاً لشواهدِ القبور المتهدّمة، بل لا تزال تضجُّ ببشرٍ، قلوبهم مثل الجبالِ التي تشخصُ نظراتها الغامضة، نحو مستقبلٍ مجهول”..
قال “أريغوني” ذلك، في كتابه “غزة: حافظوا على إنسانيتكم” الذي وثّق فيه، وبكلّ إخلاصٍ ومهنيّة، بشاعة ما شاهده من العدوان الاسرائيلي على قطاع “غزة” عام 2008-2009.
وثّق ذلك، عندما ضمّن كتابه، مارواه في التقارير التي كتبها إبان هذا العدوان، وعن المذبحة التي استمرّت لثلاثة أسابيع، لم تتوقف خلالها قنابل العدوّ ونيران تهديداته، عن تمزيق أجساد الأبرياء، في غزّة الشاهد والضحيّة.
أما عن هدفه من الكتاب، فقد كان وبالإضافة إلى توعية القارئ، وتنويره بالحقائق الموثّقة:
“الكشف عن بربرية السفاحين ووحشيّتهم، خلال 22 يوماً من المجزرة..”..
يقدّم “أريغوني” للكتاب بقوله:
“هذه الأوراقُ مؤذية وملطخة بالدماء، كما أنها مُشبعة بالفسفور الأبيض، وهي حادة كحدَّة شظايا قنبلة”..
يقول ذلك، معتبراً بأن كتابه “وثيقة تاريخية، لا مجرّد رواية من الجحيم”.. وثيقة رأى بأن عليه فيها، وكإنسانٍ ثمّ صحفي، تقديم الحقيقة التي وجدها: “الحقيقة هي الضحية الأولى لكلّ حربٍ، ومن أولى أولويات إسرائيل المطلقة، أن تغتالها، قبل الصراع وخلاله وبعده.. “..
في تقريره الأول “غرنيكا في غزّة”، يصف مشاعر الرعب التي انتابته، عندما أيقظته أصوات القنابل التي كانت تتساقط على بُعد بضعة مئات الأمتار من المبنى الذي يسكنه.. يصف أيضاً، ما شاهده من عملية سفك الدماء المرعبة هذه، والعدد الهائل للضحايا والمصابين، ممن اضطرّ لمعاينتهم في أكثر من مشفى، وصولاً إلى مشفى المدينة التي قال عن أعداد الجثث الهائلة، والمرميّة في فنائها:
“لم أرَ أيّ “إرهابي” بين المصابين والضحايا. ليس هناك غير مدنيّين وأطفال ورجال شرطة. لديّ كاميرا تصوير فيديو، لكنني اكتشفت اليوم، بأني لا أملك الجرأة لتصوير الجثث المشوّهة، أو الوجوه المبلّلة بالدموع. لا أستطيع التصوير، فأنا نفسي انخرطت في البكاء”.
إنه ما شاهده في اليوم الأول من القصف على غزّة، حيث الحقيقة التي تنزف، والأصوات التي وجدها أبشع من صوت الانفجارات، وقد قال عن أذاها:
“أطلقت اسرائيل تهديدها، بأن ما حصل في هذا اليوم، هو بداية لحملةِ قصفٍ سوف تقوم بها لمدّة اسبوعين. يأتي صمتُ العالم “المتحضّر”، ليصمّ الآذان أكثر من أصوات الانفجارات التي تغطّي المدينة، ككفنٍ من الموت والإرهاب”.
هذا ما سمعه، وأيضاً رفض السكوت عنه، فقد أصرّ على إظهارِ كلّ مخفي، وتوثيقه في فصول كتابه، بل تقاريره التي كان ثانيها: “الموتُ ببطءٍ في أثناء إصغاء السمع، من دون جدوى”.
يشير هنا، إلى أن هدفه من توثيق ما يحصل في غزّة من مجازر، هو تحقيق العدالة، وحثّ كلّ من لا ينطق بالحقائق في العالم، على النطق بها، والصراخ كما صرخته التي رفض كلّ تهديدٍ، لإسكاتها أو تزييفها:
“فلتصرخوا معبّرين عن نقمتكم، في كلّ عاصمة من عواصمِ العالم “المتحضّرة.. في كلّ مدينةٍ، وفي كلّ ساحةٍ، ولتعبّر هذه الصرخات عن الألم والرعب..”..
طالب العالم بذلك، بعد أن شهد نفاق وكذب وببغاوية الإعلام الغربي والأميركي، اللذان ينقلان عن العبري، ليقوم وفي فصله الثالث “مصانع الملائكة”، بالإشارة إلى ذلك، وإلى أن ما شهده، هو قصف المنازل والمساجد والمدارس والجامعات والأسواق والمرفأ في غزّة، بل والكثير من الأبنية المدنية. قصفٌ جعلته شدّته، لا يسمع صوت صفارات سيارات الإسعاف، ولا يرى الجثث والأشلاء التي تناثرت وأشعرته:
“وكأنك تدوس في مقبرة، إثر حدوث زلزال.. الأمر أشبه بوقوع كارثة طبيعية، إنه حقدٌ دفين، وفورانٌ صُبّ فوق رؤوس أهل غزّة، مثل الرصاص الذائب، ممزّقاً الأجساد البشرية إلى قطع.. هذه الجثث المقطّعة والمبتورة، والحيوات التي تبدّدت قبل أن تتفتّح، ستبقى كابوساً يتكرّر أمامي، لبقيّة حياتي.. لقد حوّلت إسرائيل المستشفيات والمشارح الفلسطينية، إلى مصانع للملائكة، غير مُدركة حجم الكراهية التي جلبتها لنفسها، من فلسطين والعالم”.
فصلٌ آخر : “الكارثة غير الطبيعية” لـ “أرواح تطالب بالعدالة”.. عدالة شعبٍ عانى الكثير من وحشية الاحتلال الإسرائيلي، وما زال يواجه “قنابل الفوسفور الأبيض” معلناً: “رغم استمرار الكارثة.. أنا لن أغادر وطني”.
هذا ما أعلنه “أريغوني” الذي ظلّ في غزّة حتى آخر حياته، حيث تم اغتياله عام ٢٠١١، من قِبلِ العصابات السلفية المتطرّفة..
ظلّ في غزّة، لا مبالياً بالتهديدات، قائلاً لمن طلب منه الهروب من جحيمها والنجاة:
“ببساطة أنا لا أستطيع، فقبل أن نكون إيطاليين وإسبانيين وبريطانيين أو أستراليين، نحن الآن جميعنا فلسطينيون”.

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار