الدكتور ذوالفقار عبود
تتشكل هوية الفرد وهوية المجتمع متأثرةً بالأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
والهويات الجماعية تاريخياً، تتأثر وتتبدل نتيجة ما يستجد عليها من أفكار وآراء واكتشافات، تعمل على تطوير التصورات الذهنية حول مسائل أساسية، أبرزها العقيدة (Ideology) والصراع الاجتماعي والاقتصادي.
والهويات، بكل مضامينها، هي نظريات بشرية، تعبر عن المواجهة والصراع مع الآخر، وأحياناً أيضاً يكون الصراع مع الآخر هو من أجلها، وبالتالي هي السبب والنتيجة، وبتعبير آخر، الهوية سبب الصراع، وفي الوقت نفسه يكون الصراع من أجل الهوية.
الاتجاه العام اليوم هو نحو تعدد الهويات وتمازجها وتفاعلها، لكن الإشكالية تكمن في رفض وعصيان بعض الهويات على قبول الهويات الأخرى، ما يحتم نشوب الصراع (conflict)، وهذا ما يمكن ملاحظته في الهويات المتطرفة، وتحزبها في مواجهة الآخر.
إن مسائل الهوية (identity) وامتداداتها شائكة ومتشعبة، لا يمكن حلها في الأفق الزمني المنظور، لأن الإجابة عنها تعني أن الصراع الإنساني انتهى تاريخياً.
من جانب آخر، يُعَدُ تنوع دوائر الانتماء البشري نتاجاً طبيعياً لمبدأ الحق في الاختلاف (difference)، وفي الوقت نفسه مظهراً من مظاهر هذا الحق. ويتطلب سؤال الهوية التفكير بشكل جدي في تحديد معالم الكينونة (being) والخصوصية الثقافية في مواجهة مشاريع الهيمنة (hegemony)، وذلك منعاً لأي شكل من أشكال التطاول (insulting) على الخصوصيات الثقافية؛ وفي الوقت نفسه تعزيزاً لروابط التواصل والتفاعل بين المكونات الثقافية للمجتمع.
والحديث عن الكينونة والخصوصية (privacy) والهيمنة، يستتبع بالضرورة إثارة موضوع الهوية وطبيعتها، كما يقتضي إعطاء أجوبة عن أسئلة عدة: على أي أساس يمكن بناء الهوية، هل على أساس ثابت (provin) أم على أساس متغير (variable)؟ وبأي معنى يمكن فهم الهوية الوطنية.. على أساس الوحدة (oneness) أم على أساس التعددية (pluralism)؟ وإلى أي حد يمكن طرح الهوية الوطنية كبديل عن الهويات المتكاثرة ليبرالياً والتي تناسلت بكثرة في المشهد الثقافي والسياسي العربي ما بعد العام 2011؟.
وهل لنا هوية ثابتة ومحددة يمكن مقاربتها أو تمييزها عن هويات بقية المجتمعات القريبة والبعيدة؟
وهذه الهوية، هل هي من إنتاجنا أم أنها نهج درجنا عليه باستنساخ (cloning) المتوارَث والمتقادَم من سلوك وصفات وثوابت وأفكار ومعتقدات تخلَّى أجدادنا عما قبلها، والتزموا بها، فكان لهم حق التغيير، أما نحن، فلم نجرؤ على الاستغناء عنها حينما تخلَّى العالَم عن هوياته المتوارثة ليسلك طريقه بهوياته الأكثر إنسانية؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة السابقة يتطلب طرح سؤال الكينونة والخصوصية في مواجهة مشروعات الهيمنة، كما يتطلب بالضرورة طرح أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية كتعددية، وبالغيرية كحق بالاختلاف، في أبعادهما الوجودية (الأنطولوجية) والنفسية (السَيكولوجية) والاجتماعية والثقافية والتاريخية الحضارية. ذلك أن الوعي بالذات الفردية والجماعية، لا يعدُ فقط جزءاً من الهوية الثقافية، بل هو مرتبط ارتباطاً عضوياً بالهوية الإنسانية.
تواجه الهوية الوطنية اليوم تحديات حضارية صعبة تجعلها أمام مفترق طرق: فإما أن تسلك الطريق الذي يضمن لها الاستمرارية من خلال التفاعل مع البيئات الجديدة التي يفرضها عليها محيطها، أو تبقى أسيرة الصراعات التي تعصف بكيانها وهويتها التاريخية، وتصبح في مهب العولمة ومشروعها للهيمنة. وطريق النجاة في هذا الإطار هو مسلك حتمي يدفعها إلى معرفة كيفية تدبير اختلافها وتعددها الثقافي ومحاولة تعزيز وتدعيم سلوك قبول الآخر المختلف وترسيخ قيم المواطنة الحقة وقيم الاعتراف بالآخر المختلف. لهذا، فأسئلة الهوية أصبحت تشكل مطلباً أساسياً للثقافة الوطنية القائمة على التنمية الحضارية، إنه سؤال الخصوصية وسؤال الكينونة في ارتباطهما العضوي الدائم والأبدي في مواجهة الهيمنة عبر العولمة.
لقد بدأت الألفية الثالثة بخطاب فرنسيس فوكوياما المكرس لفرض منطق نهاية التاريخ وانتصار النموذج الرأسمالي. ذلك الخطاب الذي حاول باسم الهيمنة التضييق على كل خصوصية ثقافية؛ ما جعل من العولمة فخاً منصوباً يستهدف كل تراث عالمي عميق ويصادر قيمه الإيجابية، لتحل محلها قيم استهلاكية غربية. والإجابة عن أسئلة الهوية التي نبحث فيها في هذا الإطار، هي مسلك ضروري نحو بناء نسق قيمي وطني، عبر تفعيل نوع من المصالحة بين المعولَم والوطني، في ظل ثقافة عالمية مُوَحَّدَةٌ منتِجة للتنوع. لذلك فإن العولمة يجب أن تشكل الإطار الموحِد لثقافات وهويات العالم لا إطاراً ماحياً للثقافات، كما يجب أن تكون مدبراً للمختلف والمشترك بين الثقافات في زمن العولمة واقتصاد السوق.
بناءً على ما سبق، يمكن لثقافتنا الوطنية التي عانت من نتائج العولمة الاقتصادية، التفكير في بناء تصور جديد للإنسان السوري من أجل إرساء هوية وطنية متحولة، ومنفتحة على قيم الإنسان الكونية، ومتفاعلة مع استراتيجياتها الموضوعة في المشترك الإنساني، لكن من دون أدنى تخلٍ عن الثوابت الوطنية.
مأزق الهويات ما دون الوطنية:
تعدُ الهوية مرجعاً للأفكار والمعتقدات التي تمنح الأفراد والجماعات الشعور بالرضا والتوازن وعدم الضياع المؤدي إلى الإحساس بالاغتراب (alienation)، لكنها لا تغدو بنىً متحولة إلا إذا تجاوزت مسألة التجانس واستطاعت تأسيس كينونتها على كل ما هو مختلف ومنفتح على عالم الاختلاف، متجاوزةً به الإطار الضيق الذي تتحدد به الهويات الثابتة.
وإذا بنينا وفق هذا التصور الذات السورية، باعتبارها وحدة كلية، فإنه يستحيل النظر إليها، بأي شكل من الأشكال كمعطى ميتافيزيقي، بل كبناء منفتح على كل الاختلافات ومعبرة بالتالي عن التعدد والكثرة. بناء معبر عن هوية متسمة بطابع مركَب يتحدد ويتجدد داخلياً وخارجياً بمستويات أو بمجالات فرعية نفسية، اجتماعية وثقافية.
فوفق هذه الرؤية، يصح القول إن الذات السورية يمكن أن تتماهى مع العولمة، بما هو تعبير عن كلية عالمية، لتشكل معها انبعاثاً لهوية وطنية سورية إنسانية معبرة عن القاسم المشترك بين كل البشر، ومعبرةً أيضاً عن الإنسان السوري في تعدديته ووحدته الشاملة للكل الإنساني، ودالة على مطمح سوري قادر على تدبير الاختلاف والتعدد في الأمة، لإنتاج واقتسام الخيرات وتحقيق كل عدالة منصفة قادرة على تحويل هوية ديناميكية ومتحولة مفترَضة ساكنة في الوعي، إلى فعل خلاق ومبتكر مولد للانسجام بين عناصرها.
قياساً على هذا الافتراض، يمكن القول إن الذات الوطنية السورية في أيامنا بحاجة لانبعاث جديد. فقد كادت الأزمات تمحو وجودها كاختلاف، فبدت ذاتاً بكينونة مذابة في نمط وجود مشترك يتحكم فيه غيرها، و هذا ما أفقدها تميزها وفرادتها وخصوصيتها وعمق لديها الإحساس بالاغتراب، فالعلاقة التي تجمعها بالهويات الأخرى علاقة تفاضلية تطبعها الغرابة ويغمرها صراع الهويات وإقصاء البعض للبعض.
إن صراع الهويات الذي يملأ مشهدنا الثقافي والسياسي يبدو صراعاً يجعل من كل خصوصية مرتعاً لفوقية تتغذى عليها نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي، وهي فوقية تزيد في تضييق الآفاق الرحبة الواعدة بالعطاء الإنساني الذي لا ينضب.
إن اتجاه الذات السورية يجب أن تحكمه أساسيات ضابطة للأهداف المفترَضة المتبادَلَة بينها وبين غيرها من هويات. فالتفاعل بين الهويات سيظل عقيماً غير منتج لأي تواصل حقيقي، إذا لم يسعَ إلى خلق مجال ينتعش فيه كل تواصل ممكن بين الهويات.
* أستاذ في جامعة تشرين