الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
هو الجلاء، يوم الوغى، يوم ٌتجلّى فيه السّمو قمماً، والشموخ عنواناً، هو الجلاء يوم عُمّد بالطّهر، بدماء الشهداء، صنّاع الفجر والكرامة، صنّاع الحياة ،بالبطولة والتضحية، بالصبر والإيمان المطلق بالنصر…
يوم الجلاء،يوم عربي الوجه، سوري القسمات، ملحمة وطنيّة خالدة في تاريخ الشعب العربي السوري.
إنّه عيد الجلاء، عيد الاستقلال، عيد الأعياد … اليوم الأغر، الذي أسّس لمرحلة جديدة في مسيرة البناء والتحرير وصون الكرامه الوطنيّة والحفاظ على السيادة والاستقلال.
في السابع عشر من نيسان كان للصباح لون آخر،فيه ارتسمت معالم الضياء تبراً من أكف الأباء والأجداد الذين كافحوا وناضلوا بعزيمة لا تلين وهزموا الغزاة وحققوا الانتصار.
لقد كتب الأباء والأجداد بدمائهم الذكية أسفار المجد، وزينوا ساحات الوطن برايات الجلاء، وهي ترفرف عالية ً خفاقة،معلنة ً ولادة فجرٍ جديد تباشيره مستمدة من عظمة الأبطال الذين قاتلوا بشرف وبسالة حتى اندحر الغزاة إلى غير رجعة…
لقد شكّل السابع عشر من نيسان نقطة مضيئة في تاريخ سورية النضالي، فبعد كفاح بطولي ّاستمر أكثر من ربع قرن، تمكّن السوريون من صنع الاستقلال بكفاحهم وتضحياتهم وصمودهم وإيمانهم بالحق والقيم والمبادىء التي تربّوا وشبّوا عليها، فكانت الثورات التي أذاقت المحتل الفرنسي مرارة الهزيمة وكبدته الخسائر الفادحة في الجنود والعتاد.
لقد عمّت الثورات أرجاء الوطن، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فكانت البطولات، وكانت التضحيات، وكانت الانتصارات …تعانقت أكف الثوار، تعانقت البواريد في جبال الساحل والغوطة والجولان وجبل الزاوية وحماة ودير الزور وجبل العرب الأشم …لقد كتب الأبطال بأحرف من نور ملاحم العزّة والفخار، فكانوا كالجسد الواحد في قتالهم وثباتهم وتضحياتهم ….كافحوا ببسالة، وصمدوا بإيمان ٍمطلق بوحدة سورية الوطن والإنسان …رفضوا التقسيم والتجزئة وتمسكوا بسورية دولة موحدة..كان الجلاء عرس الوطن الأبهى، معه علت الزغاريد وانتشرت الأناشيد ملء الحناجر على امتداد ساحة الوطن معلنة ً ولادة فجر ٍجديد ….
إنّه الشعب السوري الذي خاض معارك الشرف والعزة ونفض غبار الاحتلال والانتداب، وحقق الجلاء في السابع عشر من نيسان عام ١٩٤٦ برحيل آخر جندي فرنسي عن أرضه، ومعه أشرقت شمس الحرية مزهوة بالنصر المؤزر ..وراحت الحناجر تُنشد مع الشاعر الكبير عمر أبوريشة :
(يا عروس المجد تيهي واسحبي
فـي مـغانينا ذيـول الـشهب
لـن تـري حـفنة رمل فوقها
لـم تـعطر بدما حـر أبـيّ
درج الـبـغي عـليها حـقبة
وهــوى دون بـلوغ الأرب
وارتـمى كـبر الـليالي دونها
لـين الـناب كـليل الـمخلب
لا يـموت الـحق مهما لطمت
عـارضيه قـبضة المغتصب
مـن هـنا شـق الهدى أكمامه
وتـهادى مـوكبا فـي موكب)
ورددت الجماهير الفرِحة بالجلاء بالصوت الواحد مع شاعر العاصي بدر الدين الحامد:
(هذا الترابُ دمٌ بالدمع ممتزج
تهب منه علی الأجيال أنسامُ
لو تنطقُ الأرضُ قالت إنني جدثٌ
فيَّ الميامينُ آسادُ الحمی ناموا
يومُ الجلاءِ هو الدنيا وزهوتُها
لنا ابتهاجٌ وللباغين أرغامُ)
لقد ازدهت القوافي، رحل الظلم والقهر، أشرقت شمس الحرية معلنة ً اسنقلال سورية الوطني، فكتب الشعراء أبهى القصائد وأجمل الأناشيد والتي راحت تتردد على الحناجر في كل المدن والقرى، ويتحول يوم الجلاء إلى عيد وطني يحييه السوريون كل عام بفخر ٍ واعتزاز.. وهذا ما عبّر عنه الشاعر شفيق جبري بقوله:
(حلم على جنبات الشام أم عيد
لا الهم همٌّ ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة
أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد)
في السابع عشر من نيسان كانت سورية على موعد مع النصر، فكانت الحرية وكان الاستقلال، لتبدأ بعزيمة أبنائها ملحمة التأسيس والبناء بسواعد قوية، وعقول متقدة، وهي متيقنة أن مسيرة الجلاء مستمرة حتى الآن.
السوريون بثباتهم وصمودهم، ببطولاتهم وتضحياتهم، قدموا للعالم دروساً في الوطنية والمقاومة ومقارعة الغزاة، كافحوا وصبروا، ناضلوا بما هو متاح من إمكانات، إيمانهم بالحق لم يتزحزح فكانت ملحمة الجلاء، ملحمة العزة والكرامة، ملحمة البطولة والشرف.
لقد تكبّد المستعمر الفرنسي خسائر فادحة بالمعدات والجنود، وراح يتقهقر أمام بطولات الثوار الذين شكّلوا جبهة قويّة موحدة، أذاقت المحتل مرارة الهزيمة ودفعته بعد ربع قرن من الاحتلال أن يجرَ ذيول الهزيمة والانكسار، وهذا ما عبّر عنه الشاعر الكبير بدوي الجبل بقصيدته:
(انتزعنا المُلك من غاصبه
وكتبنا بالدم الغمر الجلاء
وسقانا كأسه مترعة
وسقينا وفي الكأس امتلاء
واقتحمنا حديدا ولظى
وجزيناه اعتداء باعتداء
سكرت مما ارتوت من دمه
غصص حرى وثارات ظماء
كلما جندل منا بطل
زغردت في زحمة الهول النساء)
لقد قدم السوريون منذ معركة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز 1920مثالاً ناصعاً للمقاومة والنضال والكفاح والتضحية والفداء باستشهاد وزير الحربية البطل يوسف العظمة وعدد من رفاقه في معركة غير متكافئة من حيث العدد والعتاد، لكن الإرادة والإيمان المطلق بمقاومة المحتل دفعتهم لخوض المعركة والقتال ببسالة وشرف.
يقول الشاعر خليل مردم بك سائلاً البطل يوسف العظمة ومشيداً ببطولته وشجاعته في مقاومة المحتل وتكريس المقاومة نهجاً وطريقاً للحرية والاستقلال:
(أيوسف والضحايا اليوم كثرٌ
ليهنك كنت أول من بداها
فديتك قائداً حيّاً وميتاً
رفعت لكل مكرمة لواها
فيا لك راقداً نبهت شعباً و
أيقظت النواظر من كراها)
لقد أشعل الثوار لهيب غضبهم وصبوه حمماً على رؤوس الفرنسيين، فكانت ثورة المجاهد الشيخ صالح العلي في جبال الساحل، وثورة إبراهيم هنانو في جبل الزاوية،وسلطان باشا الأطرش في جبل العرب، وثورات الغوطة والجولان ومنطقة الفرات وحماة وجبل العرب….
في ذكرى الجلاء المجد والخلود لشهداء ملاحم الجلاء، صناعه البررة،وكل شهداء سورية الأبرار الذين عبّدوا طريق الحرية والاستقلال بالمقاومة والصمود والانتصار.
في ذكرى الجلاء يستمر أحفاد صناع الجلاء بحمل الراية وهم أكثر ثقة بأن الوطن باق ٍ في العيون، في القلوب والمهج يدافعون عنه ببسالة، يحمون ترابه المقدّس ويسيجود حدوده بالسواعد التي لا تلين …
طوبى لصنّاع الجلاء، حملة الرسالة، طوبى لحماة الديار حماة الوطن رجال الجيش العربي السوري، حرّاس الفجر والكرامة، طوبى للشعب الصامد المكافح الذي هزم الغزاة وهزم الإرهاب وقدّم التضحيات من خيرة أبنائه شهداء الحق والواجب …
في ذكرى الجلاء … تستمر مسيرة الجلاء بكل العنفوان والإباء، تستمر مسيرة البناء والتحرير وإعادة الإعمار بكل ثقة وإيمان بأن الوطن ينهض ويزدهر بعقول وسواعد أبنائه الشرفاء الذين عاهدوا فصدقوا، قاوموا الاحتلال والظلم والظلام صمدوا وانتصروا …
في ذكرى الجلاء …المجد والخلود لشهداء الجلاء وشهداء الوطن الأبرار…كل عام وصنّاع الجلاء …سيّد الوطن السيّد الرئيس بشار الأسد… جيشنا الباسل …شعبنا الصامد بألف خير.
العدد 1186 –23-4-2024