تطريب قصيدة النّثر وخطورة دورها اللّغوي

الملحق الثقافي- د. وضحى أحمد يونس:
وصف الشاعر السوري توفيق أحمد كتابه المعنون:(عصافير تنقر سنابل كفي) الصادر عن دار بعل في طبعته الأولى بـ(تأملات في الحب والحياة)، ولم يصفه بأنه تأملات في المرأة ذلك أن بدهية تحكم قلب وعقل الشاعر في آن معاً هي أن الحب والحياة ليسا شيئاً غير المرأة.
إن العتبة النصية الأولى في كتاب (عصافير) هي غلافه الذي خُطَّت عليه كلمة (عصافير) باللون الأبيض موحية بالبراءة والطفولة بينما خُطَّت بقية كلمات العنوان: (تنقر سنابل كفي) باللون الذهبي مُذكّرةً بلون القمح في موسم نضجه وحصاده، كما تحتل الغلاف طوليّاً لوحة تظهر فيها ستارة حمراء تغطي معظم جسد إنساني إذ يظهر منه أحد الطرفين العُلْويين والطرفان السفليان وذلك على أرضية سوداء للوحة العائدة إلى الفنان السوري رائد خليل، فإذا منح القارئ لنفسه حرية تحليل العنوان وقف على تأويلات كثيرة أكتفي بذكر أحدها وهو الأكثر تغليباً للظن وهو أن الإنسان أبيض بنواياه،0 رمادي بتأثير غبار الواقع عليه، ذهبي في رغبته بامتلاك خبزه وكرامته، أما الستارة الحمراء فهي غالباً القناع الأكثر طغياناً بين ألوان الحياة بما يرمز به إلى ضجيج أزمات الواقع وفعلها الدامي وما يتملك الإنسان من خوف وحذر إزاءها، أما العصافير البيضاء فهي الأجيال المتلاحقة في مرحلة ما قبل امتلاكها الأجنحة والقدرة على الطيران، وفي أثناء أسئلتها عن القمح والأغنيات قبل أن تكبر في غفلة من سائر ذويها.
يمهّد الشاعر توفيق أحمد لكتابه بمقدمة تحتل عشر صفحات يرفض فيها وصف قصيدة النثر بالمولودة غير الشرعية كما يطرح السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم وهو ما الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر متسائلاً حول ما إذا كان في العربية لغتان إحداهما للشعر والثانية للنثر؟.
ولا يقدم الشاعر إجابة جاهزة بل يترك لقصائد مجموعته (عصافير) الإجابة على هذا التساؤل إجابة متأنية ودقيقة وشافية
أما فيما يتعلق بإشكالية تسمية النوع الذي تنتمي إليه النصوص فيما إذا كان نثراً أو شعراً فإنه يرفض تسميتها نثراً فنياً لأنها تسمية تقلل من شأن النصوص، ولكنه يتسامح في تسميات كثيرة أهمها (نص عابر للأزمنة) و(قصيد نثر)و(نص متوهج) فمثل هذه التسميات تليق بها من حيث إنها مرشحة لتكون بين أهم المنجزات الحضارية على صعيد الثقافة المعاصرة، وهي ليست مجرد نصوص سهلة التناول إبداعاً ونقداً بل إنّ لكتابتها وقراءتها شروطا كثيرة هي من الصعوبة بمكان بحيث يصبح الإلمام بالموروث اللغوي والجمالي والوعي بضرورة التجاوز أكثرها إلحاحاً، فقد آن الأوان حسب الشاعر توفيق أحمد لكسر معيارية القول، وإلغاء الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية متابعةً للتحولات الشعرية من قصيدة العمود إلى قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر حيث لا استقرار لأي مفهوم آلافا من السنين،
وليست هذه المرة الأولى التي يتجدد فيها شاعرنا فمن المعروف عنه تدرجه على سلم التطوير والتغيير حيث لم يترك تجريباً إلا ومارسه على الشعر ولم تنج الكلمات من حكمة حماقاته فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن القول إن قصيدة النثر في (عصافير) بجملها الطويلة المسترسلة في وصف الغوايات الجميلة هي نوع شبه مضاد أو لنقل مختلف عن قصيدة النثر التي تعتمد الومضة القصيرة مشحونة بدلالاتها المفتوحة مثل ومضات قصيدته (اللعنات):
ويقول فيها:
لُتُستَطَع مخاصمتك
أيها الخصر
إذا لم تُزنّر
بأحداق العيون
؛؛؛
لتتصالح
بكارة الضوء
وعتم الطرقات
؛؛؛
وهكذا فإن تحول الشاعر من المنظوم إلى المنثور هو إسراء بالشعر نحو الفكر، وتجريف لأمراض العاطفة، وحرث للعقل يقول في قصيدة (أنتِ ام الأيام القائظة):
لا شيء يدعو للفرح
ومع ذلك هناك فرصة دائمة
لأن يكون المستحيل ممكناً
تنطوي مقدمة الكتاب على أفكار رئيسة منها ضرورة مغادرة الشعراء مُتَرَدَّمَهُم، الصرخة التي أطلقها عنترة منذ مئات القرون وها هو شاعر (عصافير) يتخذ قراره بالمغادرة ولو على سبيل مناصرة النص النثري المتوهج شعراً، وشرعنته إيماناً منه بضرورة الإبداع، والتواصل مع إيقاع الحياة السريع بتبدلاته المتلاحقة فالنثر وفق شاعرنا يكاد يكون ردة فعل على الانحطاط الحضاري، وهكذا كان واقع الأمر في أزهى عصور العربية حين تحول الإبداع في العصر العباسي من فن الشعر إلى فن الكتابة، وكذلك هو الحال اليوم فخصوصية قصيدة النثر تكمن في التحدي الإبداعي لتحقيق شعرية جديدة مؤسسة على الاختلاف المدروس وعلى بنى فكرية حيث تلعب البيئات المستجدة مع التجارب الشخصية دورها المعرفي والجمالي لأن النثر شئنا أم أبينا هو لغة العصر، وهو المشروع المُلّح للاستفادة من فنونه في تنمية اللغة العربية، وتطويرها، والحفاظ عليها.
أسلوبية العنونة
العنوان هو عتبة للدخول إلى النص، وقد أراده الشاعر توفيق أحمد في نصوص (عصافير) علامة كاملة على النص وموجزاً له، فاتبع أسلوبية عنوانية فاعلة لها نظامها الخاص حيث حدّدت العناوين هوية نصوصها، ووشت ببعض مضامينها، حتى تحوّل العنوان إلى نصٍّ موازٍ للنص الأصل، وفتح باباً واسعاً للدخول إلى عالم الشاعر، وليس هذا غريباً، لأنّ العنوان صلة وصل بين شخصية الشاعر، والنص والقارئ، وهي صلة وثيقة، ودالة لأنها صلة تطابق أكيد فغاية العنوان هي غاية النص ذاته، وقد توفر لعنوانات النصوص الدقة، والملاءمة، والجاذبية فشكّلت مثيراً أسلوبياً ذا وظيفة إيحائية خالقة للدلالات، مكثٖفة للمحتوى.
اتسمت العناوين بالطول فهي كلها لا تقل عن ثلاث كلمات باستثناء ثلاثة عناوين هي التالية (رسالة إلى الريف) و(تمارين الألم)و (جغرافيا الملذات) بينما وصل عدد كلمات العناوين الباقية في كل منها إلى ما يقرب من سبع كلمات على الأكثر مثل (حمص، وورد والقصيدة والشجر لا يجيز إقصاء العصافير)و(فهرسي عواطفك، كي لا يهرب نخيلك من بلحي) … الخ الخ
ونلحظ تناسباً عكسياً بين مضمون القصائد، وعناوينها، فالطويل منها ذو أفكار جزئية، والقصير منها ذو أفكار كلية، أما صياغتها فمحدثة بتنوع أساليبها بين الخبر والإنشاء، فمثال الخبر (نجومكِ مشدودة إلى سلالمي)و (أقمارك تتأرجح في مداراتي) ومثال الإنشاء (لمن يومئُ عصفوراكِ) ,و (عززّي إرادتي باستقصاء أشيائِكِ) وقد بلغت مفردات العناوين حدّاً هائلاً من التنوع بين أسماء، وأفعال على اختلاف الأحوال والأزمنة حتى كأنّ الشاعر يريد لها بتنوعها، وغزارتها، وقوة دلالاتها ان تكونَ نهراً جارفاً من التجريب والإبداع يجرف ما سبق من الكتابة الشعرية عاكسا رغبة دفينة عند الشاعر، ونداءً صارخاً لكتابة جديدة بعد تجربته الخاصة في خوض غمار النثر بعد رحلة من نظم الشعر بلغت خمسة وأربعين عاماً
لا يكتفي الشاعر بالنظر إلى المرأة على أنها جسد وحسب بل يرى في حضورها حضور المدينة المتحضرة واللغة البليغة :
أعرف أنها لغة بليغة في الحب والوجد
يا لجمال ونداوة حروفها
يا للأساطير الكريمة
تفيض من شفاهها
و كأنّ أبعد غايات القصائد بناء مدينة مثالية وربما لأجل ذلك يعلو صوت الزلزلة والهدم ثم صوت البناء من جديد كما توحي موسيقى المعنى في قصائد منزاحة كليا عن موروثها جريئة وذاتية .
ثمة دافع شهواني للكتابة يشبه المراودة والرغبة، فالرغبة العاطفية في لقاء العاشق للمحبوب يقابلها رغبة الكاتب بإنشاء نص، وعندما تنشأ الكتابة وتنجز تصبح ذات أثر تحريري حيث جنون المرأة جزء من متاهات الشاعر مثال ذلك في المجموعة قصيدة (نارانا والموعد قريب) حيث الصياغة الأدبية معززة بالمعاني الشهوانية المحركة لعاطفته ورغبته في الإفصاح يقول :
مرة قالت لها يداي :
نقّلي غفوتك من زندي الأيسر إلى الأيمن
ساعتها …
سيصبح جنونُكِ جزءاً من متاهاتي
و يضج ثغركِ بحيوية النهم لفاكهة العشق
دائما كنت أتمنى
أن ترد على أسئلتي من شفتيها
و تؤجل أجوبة خصرها
لساعة اشتعال أخرى
و في قصائد أخرى تصل رغبة الشاعر بالتوحد مع امرأة قلبه وحلمه إلى ان يتقمصها فيكتب قصيدة على لسانها موزونة ومقفاة مُتضَمَنَة في قصيدته (ربيعها يمر على الحقول) حيث تقول :
لأنكَ لحظةُ العشق الجميلِ
و ذاكرةُ المواسم والفصولِ
لأنكَ دائماً تحيا بصدري
همومَ الغيم في بال النخيلِ
أثر صوفي فلسفي
تتميز اللغة الشعرية في (عصافير) أيضا بأثر صوفي وفلسفي واضح بما تنطوي عليه من كشف، واستبطان، وتبصر روحي، وحدس متجاوز، إذ يختبر الشاعر عن طريق الارتحال داخل ذاته الذات الثقافية العامة ويسمح في سبيل ذلك لمفردات الفلسفة الصوفية بالتسرب إلى قصائده تطعيماً لها بأفكار جديدة ومشاعر نادرة ومثالنا المقطع التالي :
عذراء القمة أنتِ
توزع ورود سلتها على المرئيات جميعاً
يا للجموح العاصف بمخيلتي
يهدم الحدود بين الواقع والمتعالي
بين المدرك والمتواري
و من قصائد متفرقة نتخير مفردات وتراكيب صوفية وفلسفية خالصة مثل
(إشراقة فيضها)و (محلقا في نشوتي) (بجعة الروح) و(فضاء الكينونة)و (تندغم الذات في الموضوع والأنا في الآخر) و(ما وراء المرئي) و(ضفتي الوجود المعلوم والمجهول)و (قلق الروح) و(هتك الحجاب) الخ الخ

إن (عصافير) دليل ساطع على وظيفة النثر في تنمية اللغة إذ يعطي للغة مساحات أكبر من تلك التي يعطيها الشعر ويحررها من القيود الشكلية ويلزمها بضميرها الفني لان اللغة في منظور ما يجب ان يكون هي العضو الأكثر حيوية في جسد النص الأدبي وقد ظهرت سمة التجريبية في القصائد من خلال رجحان كفتي الشعر والنثر حيث رجحت كفة النثر في مواطن قليلة منها : ربيعُكِ اكرمني
أينع غصون أشجاري العارية الشاحبة
ببسالةِ من يعطي
من واجب الحياة ان تُسعِد أرواحَ البشر
بكلّ أطيافهم وطبقاتهم لينحنوا قبولاً وعرفاناً
بالولادة المتعثرة لضمير الإنسان
ولكن ّكفّة الشعر في باقي المواطن رجحت وتدفّق ماؤها بالاستعارات ذات الرونق والزخرف والإيهام محققة بذلك قيمها التعبيرية والجمالية يقول في (أسئلة عنقها المضيء):
لا أحد يستطيع اغتيال أضواء شموسها
من ظلامات روحي
توغلّ غيثُها في يباسي
وغسل الطرقات التي تسير فيها أحزاني
من بإمكانه إبعاد زهرة عن جنوح نحلة إليها ؟
ومن يقدر أنْ يقنع الفراشة بخطورة المصباح ؟                           

العدد 1191 – 28 -5-2024     

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى