الملحق الثقافي- بقلم د. أيمن أبو الشعر:
أستطيع القول: إن تونس أسرتني بكل ما فيها من روعة وتألق وثقافة، استمرت زيارتي أسبوعاً كاملاً بدعوة من المؤسسة الإعلامية المستقلة، هي مجلة «الكتيبة» العريقة واسعة الانتشار، التي تصدر بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنكليزية، وبالتالي لها تواصلها الواسع خارج تونس أيضاً.
برنامج غني مكثف ونوعي:
أعدّت «الكتيبة برنامجاً جميلاً وعملياً، فكانت الأيام الأولى مكرسة لبعض الجولات السياحية المميزة في تونس، التي تمتاز بالظلال الوارفة ما جعل صفتها الرئيسة «تونس الخضراء»، وفيها العديد من المناطق السياحية الجميلة، وقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على مدينة سوسة الساحلية البديعة، ومنطقة بوسعيد الجميلة المضطجعة على تلٍّ هو بدوره يشرئب نحو البحر، فاتحاً أفق مشهد بديع، ناهيك بالطابع المميز لبيوتها البيضاء وأبوابها الزرقاء الموشَّاة بالمسامير.
كما أقام د. وليد الماجري مؤسس ومدير عام «مؤسسة الكتيبة» وزوجته الإعلامية النشيطة التي أصدرت كتابي: «كي لا تغادر معي»، مأدبات دعي إليها عدد من المثقفين التونسيين، فكانت فرصة جميلة، لم تقتصر على التعارف وحسب، إذ منحها فتح حوارات معمقة حول الأدب والشعر في تونس وسورية وروسيا، وكنت سعيداً بأن انطباعاتي وتقييماتي الأولية كانت في محلها تماماً حول عدد من الشعراء التونسيين، وعلى الرغم من أن اطلاعي متواضع على ديوان الشعر التونسي، شعرت دائماً بوجود بصمات في محراب ذائقتي الجمالية تركها نتاج رموزه المعاصرة، وبشكل خاص الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، والشاعر الناقد المنصف الوهايبي، والشاعر آدم فتحي، والشاعر القمري، والشاعر المزغني، والشاعر عادل المعيزي وغيرهم.
لقد تنوعت الأحاديث الأدبية، فحدثت الأصدقاء في تونس عن الحركة الشعرية في سورية، متوقفاً مع نماذج من قصائد تركت بصماتها في ذاكرتي الشعرية للشعراء: د. راتب سكر، ود. ثائر زين الدين، ود. نزار بريك هنيدي، وإذ تطرقت حواراتنا للأدب الفلسطيني وموضوع القدس في الفن الروائي، تحدثت تجربتي مع الأديبين: رشاد أبو شاور ود. حسن حميد، قبل أن ينتقل بنا الكلام باختصار إلى أهم اتجاهات الشعر الروسي في القرن العشرين وتياراته، وأبرز رموزه، كألكسندر بلوك، وسيرغي يسينين، وفلاديمير ماياكوفسكي، ومن عاصرتهم وشاركت معهم في الأمسيات والنشاطات كريما كازاكوفا، وأندريه ديمينتيف، وتحدَّثت بتفصيل أوسع عن صداقتي مع رسول حمزاتوف وجينكيز أيتماتوف وغيرهما، وبذلك تحوَّلت مآدب الغداء، أو العشاء، إلى ندوات ثقافية صغيرة مكثفة، كان آخر ما فيها الاهتمام بالطعام، الذي لا بد لي أن أقول عنه: إن المطبخ التونسي أكثر من شهي، وخاصة الأطباق البحرية المتنوعة.
– الجمهور المثقف الذوّاق:
كانت مؤسسة «الكتيبة» قد ارتأت بالتشاور معي أن تكون الأمسيتان في تونس العاصمة ومدينة سوسة مكثفتين، ومع ذلك كانت الأمسيتان رائعتين حقاً، جمهور مثقف واع بينه الكثير من الأدباء والصحفيين والفنانين، فقد رتب المنظمون الأمور بشكل جميل جداً، بدأ اللقاء بكلمات ترحيبية مختصرة ثم بمشاركة شعرية من الشاعر عادل المعيزي الذي له نبرة مميزة فعلاً، ثم قدم الفنان المطرب الملتزم ياسر جرادي بعض أغانيه، ومن ثم عُرض فيلم وثائقي صغير عن تجربتي الشعرية تناول باختصار مسيرتي مع الكتابة والحياة، إثر ذاك قدمتُ بعضاً من قصائدي، ومقاطع من القصائد المطولة، وعُرضت على الشاشة أغنيتي: انهض وحصار غزة، بأداء الفنانة لانا هابراتسو من ألحان الفنان معن دوارة، وجرى إثر ذاك نقاش جميل واع مميز جداً، وأكثر ما أسعدني أن بعض المثقفين كانوا في أثناء مداخلاتهم يقرؤون مقاطع طويلة أو قصائد كاملة من مجموعاتي السابقة غيباً، وأكدوا لي أن هذه الأشعار كانت رفيقتهم في نضالهم، وخاصة في الحراك الطلابي في الجامعات عبر أشرطة الكاسيت، وختم الفنان ياسر جرادي اللقاء بأغان جميلة ألهبت القاعة تفاعلاً، نعم هذه هي جائزة المبدع الحقيقية! وقد أنعشتني رؤية مظاهرتين حاشدتين خلال هذه الأسبوع لنصرة القضية الفلسطينية والتعاطف مع الشعب في غزة المنكوبة! فشكَّلت حالة تحريضية مشاعرية دفعتني لكتابة قصيدة لها طابع خاص بعنوان: «الشعب» يعمل الفنان المطرب المعروف ياسر جرادي حالياً على تلحينها.
كانت الأجواء مماثلة في مدينة سوسة الجميلة، وكان واضحاً أن المستوى الثقافي عال جداً، وحتى الأسئلة في الحوارات لم تكن تقليدية بل كانت بحد ذاتها تعبيراً عن المستوى الثقافي والحضاري، ما دفع إلى استمرار النقاشات طويلاًَ، كما لفت نظري حرص الشابات والشبان على التقاط صور تذكارية مع شاعر عاشوا إلقاءه المتخيل مع قصائده عبر أشرطة التسجيل، وهم يرونه وجهاً لوجه للمرة الأولى.
اللقاءات النوعية:
أسعدني هذا الاهتمام الكبير إعلامياً حيث أُجريت معي لقاءات صحفية للإذاعة التونسية المسموعة والمصورة، بما مجموعه عدة ساعات، وشارك فيها عدد من الشعراء والصحفيين للحديث عن تجربتي الأدبية، وأغنوا اللقاء ببعض إساهاماتهم، كالشاعرين المميزين: عادل المعيزي وشاكر أحمد مدير بيت الشعر التونسي، وقاد الحوارات الأولى المذيع المعروف سفيان العرفاوي بحضور الصحفي المخضرم شكري الباصومي، الذي تناولت الحوارات المرافقة كتابه عن تونس وهمومها الاجتماعية، وقادت اللقاء الآخر المذيعة الموهوبة سماح قصد الله فقدمت في هذا اللقاء عدة أغان من قصائدي بألحان الفنان معن دوارة وغناء المطربة الموهوبة لانا هابراسو، وأدهشتني بعد أن تحدثت طويلاً عن هذه التجربة مع الفنان معن والفنانة لانا أنها أشارت إلى تجربتي السابقة القديمة في فرقة سبارتاكوس، وتحدثنا مليا عن أوبريت «أوديب ثائرا» التي تضمنت إسقاطاً فنياً على القضية الفلسطينية، وحين قالت حبذا لو نستمع إلى مقطع من هذه الأوبريت، اعتذرت كونها غير مسجلة في «الفلاشة» التي أهديتها للإذاعة، وفيها اثنتا عشْرَةَ أغنية من مشروعي الجديد مع معن دوارة ولانا هابراسو، فما كان منها إلا أن أشارت إلى المخرج، فبث على الفور مقاطع من أوبريت «أوديب ثائرا»، وهي من تلحيني وأداء الفنان الرائع فهد يغن مع فرقة سبارتاكوس قبل زمن بعيد… وكذلك كانت مميزة اللقاءات لصحيفتين رئيستين واسعتي الانتشار في تلك الربوع الغالية، فأجرت الحوار لصحيفة «الشارع المغاربي»، الصحفية المميزة عواطف بلدي، و أجرت الحوار لجريدة «الشعب» رئيسة التحرير نفسها الإعلامية والباحثة سلمى الجلاصي، وكان هناك لقاء مهم مع المخرج المسرحي أيوب جوادي حيث ناقشنا مسألة عرض مسرحيتي «رجل الثلج» في تونس، وهي تتحدث عن الهجوم النازي على روسيا في الحرب العالمية الثانية، بإسقاطات معاصرة على النازية الجديدة…. والأرجح أن أزور تونس مرة ثانية قادمة لحضور العرض الأول لهذه المسرحية…. كما جرى لقاء مهم مع صاحب ومدير دار نشر «الكتاب»، حيث تم الاتفاق من حيث المبدأ على إعادة طباعة بعض الكتب النافدة، وإصدار الأعمال الشعرية الكاملة في مجلدين.
وتوجت زيارتي بلقاء نوعي وحميم مع الفنان التونسي الشعبي الكبير لطفي بوشناق بدأ بعناق إخوة الدرب الواحد، حيث استمر اللقاء – الذي كان مقررا لنصف ساعة بحسب برنامج الزيارة- قرابة ساعتين عبر نقاشات جميلة جداً، وسماع بعض أغانيه الحلوة المعبرة، وقد ترك انطباعاً رائعاً بكل معنى الكلمة.
بقي أن أشير إلى أن وزارة الثقافة التونسية ممثلة بـ»بيت الشعر» في تونس منحتني «درع الشعر التونسي المذهب»، وقد كتب عليه: «أُسند هذا الدرع إلى الشاعر العربي أيمن أبو الشعر، تكريماً له، وتقديراً لتجربته الشعرية»…
ومذ غادرت تونس عائداً إلى موسكو، وقد بدأت أتوق شوقاً إلى الزيارة القادمة، وحضور عروض مسرحيتي «رجل الثلج»، التي سأجري عليها بعض التعديلات الطفيفة لتعميق إسقاطاتها على النازية الجديدة.
العدد 1193 – 11 -6-2024