الثورة- رفاه الدروبي:
تقع المكتبة الظاهرية في قلب دمشق القديمة، بجوار العديد من المباني والأوابد الأثرية الشامخة، فقد أعطت أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ هويتها مثل: «جامع بني أمية الكبير، سوق الحميدية، قلعة دمشق، حمام الملك الظاهر» . وفي شارع ضيق معبَّد بالحجر البازلتي الأسود، ينتصب مبنى حجري مرسوم بدقة متناهية، توحي بأنَّ يد القدر ساهمت في تشييده بخطوط صُمِّمت من حجارة بازلتية سوداء، وأخرى جيرية صفراء، تعلوها رسومات وكتابات تُمجِّد السلطان على جدرانه. إنها دار الكتب الوطنية الظاهرية، أو كما يطلق عليها أبناء دمشق «المكتبة الظاهرية».
منارة سياحية وأثرية
مدير المكتبة الظاهرية المهندس مازن الغراوي أشار إلى أنَّها تعتبر أقدم مكتبة في بلاد الشام، واشتهرت وذاع صيتها كثيراً كونها لعبت دوراً كبيراً في تعريب العلوم، ولما تحتويه من كتب ومخطوطات استفاد منها آلاف الباحثين والعلماء من داخل سورية وخارجها، ومازالت تلعب دوراً كبيراً في تقديم الخدمات العلمية والثقافية لروَّادها حتى يومنا الحالي، موضِّحاً بأنَّها صارت تُشكِّل منارة سياحية وأثرية مهمَّة بأبنيتها المعمارية وزخارفها الفريدة، ويؤمُّها السياح من كل أنحاء العالم كي يتمتعوا بروعة عمارتها وفخامة بنيانها، واحتوائها على الكثير من عناصر الفن العربي الإسلامي المعماري، والمستوحاة بمجملها من المكانة ذاتها لمسجد الجامع الأموي، باعتباره شاهداً على قوة العصر ونفوذه.
ولفت مدير الدار لـ «الثورة» إلى أنَّها تعتبر من الأبنية التاريخية باعتبارها مازالت تحتفظ بالكثير من النقوش والكتابات على جدرانها وأبوابها، ولعل واجهتي المكتبة من أجمل ما بنى المماليك، لأنَّهما مشيدتان بالأحجار المنحوتة، وتحيط بها في أعلاهما كوى مستديرة ذات زخارف هندسية بديعة. أمَّا المدخل الرئيسي، مبني بأحجار بيضاء وصفراء، وتشتمل المكتبة الظاهرية على بنائين: الأول: المدرسة العادلية الكبرى والثاني المجاور لها، المدرسة الظاهرية، منوِّهاً إلى أنَّها تنسب إلى الملك الظاهر بيبرس فكان يرغب في بناء مدرسة مشابهة لظاهرية القاهرة، لكنَّه مات مسموماً قبل أن ينفذ رغبته، فنفذها عنه ابنه الملك السعيد سنة 676هـ. ونقل رفاة والده إليها من قلعة دمشق، ثم دفن إلى جواره بعد أقل من عامين.
كما أكَّد المهندس الغراوي إلى أنَّ المدرسة الظاهرية أصبحت مدرسة ابتدائية عامة للأطفال عام 1294هـ، واستمرت لنهاية القرن التاسع عشر حيث تحوَّلت إلى مكتبة عامة أثناء ولاية مدحت باشا، ثم حمدي باشا، وبفضل نشاط دؤوب من الشيخ طاهر الجزائري وسليم البخاري ومجموعة من العلماء الدمشقيين من رغبوا في أن تحفظ جميع مخطوطات دمشق في مكان واحد، لحصر الإشراف عليها خوفاً من ضياعها من جهة، ولزيادة الاستفادة منها في أخرى. وللغاية ذاتها تمَّ تأسيس مكتبة عمومية جمعت فيها المخطوطات من عشر مكتبات خاصة، واتخذت من ضريح الملك الظاهر مكاناً لها، لتُسمَّى فيما بعد باسم المكتبة الظاهرية، مبيِّناً أنَّ المكتبات العشر المجموعة المخطوطات منها كانت من المكتبة العمرية، وما ضم إليها من المكتبة الضيائية، ومكتبات سليمان باشا، الملا عثمان الكردي، مراد النقشبندي، السميساطية، الياغوشية، الخياطين، الأوقاف، بيت الخطابة وورد ذكر المكتبات في سجل المكتبة العمومية في دمشق، المطبوع عام 1299هـ.
وأفاد المهندس مازن أنَّ المكتبة الظاهرية شهدت ازدهاراً وتطوراً كبيرين تمثَّلا في تزايد أعداد المخطوطات النادرة، والمراجع القيمة والكتب المتنوعة والدوريات، العربية والأجنبية، وحرصاً على تلك المؤلفات من التلف من جهة وتوفر شروط الحماية، ووجود قسم متخصص بالترميم، فتمَّ نقل المخطوطات إلى مكتبة الأسد الوطنية الحديثة، إضافة إلى حوالي خمسة آلاف كتاب قيّم ونادر لم يعرف العرب المدرسة بالمعنى المستقل إلا في العصرين الأيوبي، والمملوكي حيث ازداد شأن المدارس، فكثر انتشارها في كل المدن والأمصار ووقعت تحت سيطرتهم، وأوقفوا لها الأوقاف الجزيلة، مشيراً إلى دور المدارس في دمشق حيث كانت تلعب عاصمة الأمويين دوراً بارزاً في إعادة المكانة الثقافية والدينية، فاجتذبت عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والمشاهير من تركوا بصمات واضحة فيها، وأسهموا في تنشيط حركة العلم وتنوير الناس، بعد عهود طويلة من الظلم والصراع. ووصل عددها في دمشق إلى أكثر من تسعين مدرسة تعرَّض معظمها للدمار الكامل، إما بفعل الكوارث الطبيعية، وإما بفعل الإهمال والحرق على أيدي التتار والمغول.
وبين المهندس مازن أنَّه أعيد بناؤها وترميمها عدة مرات، حتى وصلت إلينا محتفظة بالقليل من معالمها الأصلية مع بعض الإضافات في عصور مختلفة، فرضتها ضرورات التوسُّع أو التغيير في الوظيفة، وتعتبر المدرسة الظاهرية أهمّ تلك المدارس وأكثرها وضوحاً وأنطقها تاريخاً، كونها تشي بعراقة الإنسان العربي وأساليب توظيفه لمضامينه الروحية، في إعجاز تحفة معمارية رائعة لاتزال تقوم بوظيفتها إلى يومنا الحالي، وبيَّن بأنَّه بدءاً من العام 2007م أنجز مجمع اللغة العربية بدمشق أعمال ترميم وتجديد شاملة للمكتبة باعتبارها جزءاً أساسياً منه، وجرى تزويدها بأحدث التجهيزات المكتبية المتطورة؛ لكنَّ الحرب السورية حالت دون الافتتاح الرسمي لها عند انتهاء ترميمها عام 2010م، ومرَّ على قيام المكتبة الظاهرية سبعة قرون ونيِّف، ولاتزال صرحاً حضارياً يؤدِّي مهمته الثقافية على أكمل وجه، ويلقى العناية اللازمة من حيث التجديد والتحديث، وتزويدها بالجديد ممَّا يصدر من مؤلفات ومراجع، وأبواب المكتبة مفتوحة الآن لاستقبال زوَّارها من روَّاد العلم والآثار، لتبقى قناديلها مضيئة في ركن عريق في دمشق القديمة يُذكِّر الأجيال بماضي الأمة المجيد، وتراثها الخالد على مرِّ السنين.