الثورة _ ديب حسن
بصبر وروية وشغف الصائغ المحترف لإخراج درة لا تشبه غيرها من التقليدي تعمل الروائية والشاعرة والأستاذة الجامعية الدكتورة سلمى جميل حداد على منتجها الإبداعي الذي تنوع بين الرواية والشعر والدراسات المهمة في مجال العمل الموسوعي المقارن بين المصطلحات، وهذا وحده كاف لأن يستهلك طاقات الجهد لأنها تعمل منذ فترة على مثل هذا المشروع المهم جداً وهي الأستاذة الجامعية في تخصص نظرية الترجمة.
ما يعني أننا سنكون أمام موسوعة فريدة ثرية الدلالات وتلبي حاجة المتابع.
وبالعودة إلى إبداعها الروائي، كنا قد أشرنا إلى صدور روايتها الجديدة عن دار خياط في واشنطن وحملت عنوان: جوريا داماسكينا».
الرواية تمثل خطاً جديداً في السردية التي تعمل عليها حداداً، ولاسيما في القدرة على نسج الموضوعات ذات البعد الثري الواسع الذي يحمل الهم الإنساني الواسع لكنه ينطلق من الوطن من الجذر الأول للانسانية التي كانت من أرض بلاد الشام من حيث ينام الغريب متكئاً على ظله كما قال محمود درويش ودمشق التي لا تقبل القسمة على اثنين كما قال النواب.
دمشق الوردة الحورية التي تظهر وشماً إبداعياً من عنوان الرواية.
دمشق تفوح بعطرها لمحبيها كما بطلة الرواية وهي التي تقف شامخة كما قاسيون عالية كياسمين أبيض لا يتلون ..
هي الحزن المبدع : ألا تكفي جرار العالم كله لاحتواء دمعة لم تنهمر من عينيها في تلك اللحظة، للحزن هوية واحدة لا تختلف فيها الثقافات مهما تباعدت وتنوعت جذورها ومشاربها، هوية لا عرق لها ولا لون ولا دين، إنها هوية الانكسار، هوية النفي في داخلكَ الجريح، في داخلكَ البارد الخائف المُجوّف الوحيد، الإنسان الحزين ليس حراً، لا يمكن أن يكون حراً حتى لو أراد أو خُيّل إليه ذلك، هو في كل لغات العالم كالشجرة حبيس التراب، كالزنزانة حبيس الوحدة، كالموت حبيس المجهول، وأي محاولة لترجمة الحزن من لغة إلى أخرى هي خيانة المترجم لقدسيته لأن الحزن لا يُترجم.. هو هو في كل لغات الأرض وفي كل الثقافات البائدة والمعاصرة.
جوريا سعد.. جورية دمشق الوردية وأبجدية الحب والدمعة الحبيسة في قارورة عطر، هكذا تفردت فبقيت وحيدة كالشمس. صوت أمها العالي يشوش فضاءاتها، وكذبة أبيها تحطم أيقونتها، وجدّها مزرعة الجوري والحب.
يُقال: إن الأسماء لا تُترجم، لكن بيير ترجمها فاتسعت بروزاً داماسكينا ضحكة المتوسط، صنعت لأستاذها الفرنسي عطراً يجمع الأضداد في قارورة: كونترا أنسامبل ضاجّ كالألم، صارخ كالغضب، وديع كالحب، حزين كالعنفوان، مطمئن كالجذور، دافئ كالوعد، متلهف مثلها وبارد مثله، في غيابه الأبدي، ضمّت وجعها إلى صدرها كما يضمّ العازف عُوده الحزين وانصرفت إلى ماضيها الميت الحي وحاضرها الباذخ بما أتقنت على يديه، هي اليوم من أشهر صانعي العطور في العالم، وربما أكثرهم عرضة لخناجر الغدر، لكنها لا تزال مأهولة بكونترا أنسامبل، أول وآخر قارورة عشق.
خبر عاجل وعناية فائقة وقلب يتوقف بعد طول صفير، وثّابة للغياب أكثر من أي يوم مضى، أنهكها فراغ الحضور وأثقلها حضور الغياب، الأماكن ضيقة ربما لم تُصنع لمقاسها، والأثير خانق ربما لا يتسع لرائحة عطر صنعته من بعض حضور وبعض غياب، لقد اختارت من المسافات أطولها ومن الغياب أبعده ومن الحب أصعبه. ربما.. ربما حان الوقت لأن يُؤنَّث في غيابها الغياب….
الرقص على جليد الحب
دمشق حاضرة بكل بهاء العاشقين سواء كان الحزن أم الفرح , دمشق الرابضة في قلب كل عاشق , هي شجرة التوت التي تمنح الأحمر القاني وتخضب الشفاه , دمشق سمفونية كل شيء , ولكن هذا لايمنع بطلة الرواية من البوح بحزنها الشفيف :
(يراني ولا يراني وأنا أراه وأراه في يقظتي وفي أجمل أحلامي. مزاجيّ كغيمات شباط اللعين، وأنا أتقنت على يديه الباردتين الرقص وحيدة على جليد الحب من طرف واحد. ألفُّ خصر الفضاء وأطويه بحرفيّةٍ كأغصان الريحان. لا شيء يدفئ خاطري منه سوى نظرة خاطفة أو كلمة عابرة سبيل أو بعض ثناء يسكبني على جليدي كالشمس ثم يخرجني من سباتي الشتوي شجرة توت شامية محمّلة بشرابها القرمزي الشهي. كيف أُفهمك يا بيير أن أشجار التوت في دمشق محميّة عاطفية، وأنها تدبغ شفاه العاشقات بالأحمر القاني وتنهمر على أفراحهن الصيفية عصيراً بارداً مضرّجاً بأقداح الأبدية؟ كيف؟ كيف؟ يا أنت كله ويا أنا كلكَ! كيف أنهض من ورودكَ الفرنسية وخزامى حقولكَ وأبقى جوريا، جوريا الدمشقية)
وماذا عن الرجل..؟
سؤال دهري ووجودي تطرحه الرواية على لسان البطلة : لماذا كل شيء يلقى به على كاهل المرأة، أهي ضلع ناقص، ماذا عن معاناتها ماذا عن وجودها الذي يعطي البشرية معناها، أسئلة لايمكن أن تتوقف لكنها تتجدد بطريقة ابداعية متالقة يصوغها قلم خبر المجتمع وسبر أغواره، وقدم وعالج الكثير من القضايا الاجتماعية التي مازالت ترافقنا على الرغم من أننا نحاول إخفاءها، لكنها موجودة ولابد من جرأة إبداعية لطرحها كما فعلت الدكتورة سلمى جميل حداد؛
(منذ ذاك اليوم توقفت دينا عن الانتظار، وتوقفت عن الأمل، وتوقفت عن الأنوثة، وتوقفت عن شراء العطور، منذ ذاك اليوم توقفت عن الإنصات لنصائح والدتها النمطية: طولي بالك يا بنتي! المرأة يجب أن تكون صابرة ومرنة، لا تخربي بيتك بسبب نزوة عابرة! لو تركت كل زوجة بيتها بسبب نزوة عابرة لما عمّرت البيوت.. الطير مهما طار لا بد أن يعود إلى عشّه يا عيوني، طولي بالك الله يرضى عليك، أولادك بالدنيا ياحبيبتي.. هم ثروتك الحقيقية. ماذا! تريدين الطلاق!! لا طلاق في عائلتنا يا دينا، انزعي هذه الفكرة من رأسك المجنون! والله لو سمع أبوك بهذا الكلام يهدّ الدنيا فوق رؤوسنا.
صلي على النبي يا بنتي، صلي على النبي وانزعي هذا الموّال من رأسك! كل شيء له حل والمرأة يجب أن تكون واعية ومتفهمة ويجب أن تتأقلم مع كل الظروف حفاظاً على بيتها وأولادها.
المرأة يجب المرأة يجب.. المرأة يجب!!! وماذا عن الرجل يجب؟ ها! ماذا عن الرجل يجب؟؟؟ اصمتي يا أمي! اصمتي ودعيني وشأني! لا أريد المزيد من النصائح ولا أريد المزيد من الواجبات. لقد انخلع كتفاي من حملها ولم أتمكن من إرضاء أحد. دعيني وشأني رحم الله والديك)
تحلق بنا الدكتورة سلمى جميل حداد :أكثر من جناح في عمل روائي متميز يعيد للكل الجمال برونقه وبهجته يصنع من الوطن قارة بلا حدود، ومن الإنسان طاقة أمل وتواصل يبني جسور الحاة بين الشرق والغرب بين ياسمين دمشق الأبيض بين جوريها وما وراء البحار، إنها جدلية الانسان في ابهى صوره حزناً وفرحاً.
