الملحق الثقافي- غادة اليوسف:
الأدب الساخر الناجي من التهريج والاسفاف هو أصعب أجناس الأدب . انه قهقهة المقهورين ، وجرح في هيئة ابتسامة، أو أنّةٌ مديدة من كسر متبدّل في موضع حساس من الروح والوجدان ، فادح الوجع،طويل أمد الشفاء والتعافي..
على مدى صفحاته الخمسين بعد المائة في كتابه :(كسرٌ متبدّل) الذي يضم بين ضفتيه ثلاثين مقالة صحفية للأديب القاص والشاعر محمد سعيد حسين ..مقالات ناقدة، ساخرة، تسلّط الضوء على كثير من الهموم الحياتية: سياسية وثقافية وتربوية وغيرها من القضايا التي تشغلنا، بل وتقضّ مضاجعنا . همومٌ مافتئت تثقل يوما بعد يوم ، ننوء بها، بل تسحقنا على كل صعيد بمواجهة أفق مسدود.
نصوص ..يتألق الاديب محمد سعيد حسين من خلالها في سماء الادب الساخر نجما لامعا الى جانب ادباء سوريين سطع نجمهم داخل سورية وخارجها مثل حسيب كيالي ووليد معماري ومحمد الماغوط على سبيل المثال لا الحصر. هؤلاء الذين سخروا تلك السخرية الهادفة الجادة بعبقرية تضاهي جورج برنارد شو وموليير .
انها نصوص أدبية ترفل بلغة سهلة مليئة بالكثافة والظلال في آن معا ، بعيدا عن التجهم والتشنج والتعالي والشعاراتية .لغة برغم الألم فيها من العذوبة والدلالة مايجعلها تؤدي وظيفتها التواصلية والجمالية على اكمل وجه عبر علاقة العام بالخاص، اي علاقة اللغة -الأدب بالمحتمع الانساني. وذلك باسلوب ساخر يذهب بالمتلقي الى حيث تلتمع في عينيه الدمعة في اللحظة التي تتفلّت منه ابتسامة، او، ربما ضحكة تصل الى القهقهة الموجوعة، وذلك لذكاء التقاط المفارقات على مساحة واقع مأزوم..انه الضحك الانتقادي ، او الناقد بطريقة فنية تهدف الى كشف المفارقات وملاحظة الواقع واظهاره كاريكتيرياً..ومحاكمته ثم وضعه موضع الاضحاك والسخرية ، وذلك بعفوية وبراءة ، بخبث ،والم و بتلميحات ذكية، ومكر لمّاح..فيدخلنا محمد سعيد حسين في كسر متبدل شديد الايلام، ببراءة طفل مشاكس، وبوقار شيخٍ رغم انكساره لايزال يصرّ على الاستقامة وارتقاء المرتفعات الى الموجع من همومنا الصغيرة والكبيرة المصنفة في خانة الهموم التي تهدر وجودنا من قبل الطغيان بكل تلوّناته واشكاله وتعدد مصادره..وتتمحور حول الحريات بكل مسمياتها وتتناول خدعة الديمقراطيات العالمية والمحلية والفساد الوظيفي والاداري والتخلف وسخف الكثير من العادات والتقاليد..باختصار كل مايعيث في روح الانسان عموما وفي جسد الوطن والمواطنة خرابا من زاويتي الحق الاستحقاق..
في (كسر متبدل)يتألق الادب الساخر بالتزامه بالانسان كافة كنهج مضنٍ لتكوير الحياة في بلدنا وفضح كل مايهددنا داخليا وخارجيا..
بمثل هذا النوع من الكتابة يغدو الضحك فصاحة المقهورين في ازمنة وامكنة القهر، بل احتجاج ورفض لواقع مأزوم ملتبس، وغير محترم يجب تغييره ..
في مثل هذا النوع من الكتابة برتفع الضحك ويرقى الى مكانة كسلاح ذكي ، اذ يستعيض عن خطابة الاقناع بخطابة السخرية، وعن الحجة المتأنية بالحجة التي تقلب التابوات..كما يعلمنا ارسطو قائلا:»يجب دك رصانة الخصم بالضحك،وجعل الضحك منافسا للجد، فيغدو قوة يمكن ان تكون لها قيمة معرفية لما فيها من احجيات فطنة واستعارات غير متوقعة ، مما يجعلنا ننظر إلى مفارقات الحياة على نحو أحسن، ونصل الى الحقيقة بيسر من خلال تصوير البشر والعالم بكيفية غير التي عودتنا عليها الملاحم والبطولات والمآسي وحياة القديسين ، حيث يرتفع الضحك الى مستوى الفن ، وقد يصبح موضوعاً فلسفياً حين يتحول إلى فكر، فيغدو طاقة تحررمن الخوف ..
عندئذ سيكون أول المهزومين هم الطغاة والانتهازيون والاغبياء، والمنافقون من خلال تصوير العيب، والنقص ،والضعف بحيث يظهر لنا بالمفارقات كيف أن الأغبياء يحرسون الفكر، والفسّاق يقيمون في دور العبادة، والمجرمين يفرضون القانون .
اللافت في نصوص (كسر متبدل) ان زمن كتابتها ونشرها يمتد بين ٢٠٠٥ حتى٢٠١٩ ولاتزال تجمل وهجها وضرامتها ..ومالذلك من دلالات اهمها دلالتان: قدرة الاديب على الاستشراف ببصيرة نافذة والثانية : أن هذا الواقع ورغم تلك السنوات لايزال يرزح تحت وطأة الهموم ذاتها ، بل ينسحق تحت ماهو أدهى وأمرّ .
تلك النصوص بعناوينها اللافتة التي ما إن باشرتُ بقراءتها بوعي المحايد الموضوعي حتى سحبتني بما تمتلك من خاصية الجذب على نحو آسر الى عوالمها ..وعندما يستطيع النص -أي نص- ان يستمر في اجتذاب المتلقي فمعنى ذلك ان لهذا النص قدرة نوعية على الاسر الجمالي..ولا شك، في أن الكاتب الادبي الناجح هو ذاك الذي ينتج عنصرا محبوباً خلّاباً، ويبثه في النص المكتوب..ومن كثافة الجرعة الوجدانية تنبع القيمة والجودة والأهمية. وما من حقيقة في هذه الدنيا أعلى من الوجدان الذي هو أساس الذات ومركزها، وإن على نحو اغترابي مرير، وكما يقول الراحل الكبير يوسف سامي اليوسف: الوجدان، الذي هو ينبوع الفن والادب والصوفية والفلسفة الذاتيه، رعشته هي أسمى القيم، ولعل النص الجيد المنبثق من بؤرة الوجدان ان يخلق رعشات وجدانية صادقة وحميمة، والا فلاقيمة له.
في (كسر متبدل )تقريع كثير وبكاء اكثر في ضحك مبحوح، وفيها دعوة رغم السخرية الى ان ناخذ حياتنا مأخذا جادا ، ونعمل على تصحيح واقعنا تاريخيا وانسانيا هذا إذا صدق العزم حقاً على قبول التحدي ومواجهة حنظل الحقيقة التي نجد مشقة كبيرة في تحسسها وصعوبة بالاعتراف بها.
كسر متبدل يثير جواً حاراً من الأسئلة..بل المساءلة ..والفرق كبير..المساءلة حول المأساة التي نتردى فيها في حمأة عالم مشحون بالقوى العاتية وصراعاتها ..يلقم في كل نص حجرا للراسخين في الوقار .
ولانزال في ألم لايطاق ، وكسرنا الذاتي والعام متبدل، ومادمنا على قيد هذا الألم الفادح فهذا يعني اننا أحياء، لم يتخدّرعصب التنبيه ولم يتموّت، ولانزال على لياقة الصرخة .
يقول الأديب محمد سعيد حسين:
وعليه، فإن اول ما يمكن أن يلفت الانتباه، ويثير الأسى في الوقت ذاته، ان الادب الذي نكتبه يشبهنا، نحن المقهورين على امتداد الوطن، هذا الوطن الذي استهلكناه أكثر مما ينبغي في شعاراتنا وخطبنا الحماسية، ومدائحنا ومراثينا على السواء، ولم نمنحه، حتى الآن فرصة يلتقط فيها أنفاسه ليعيد إنتاجنا من جديد، كبشر قادرين على الحب دون إثارة الزوابع».
ويضمّد كسره ..كسرنا..المتبدل مختتما نصوصه الباذخة بمرهم شعري وهو الشاعر باللغة المحكية اللصيقة بوجداننا متقصدا المزيد من الحميمية والرغبة في الوصول :
ياصوتْ موسيقى الحلمْ، ياكتابْ
رصدْ ونوى، ونهوند وهزامي
خلّي العجمْ ينفخْ عَ روح البابْ
وتشرقْ شمس من ضو أحلامي
ونتوسّل بروح الصَّبا ،وغيابْ
سحر البياتْ بليلنا الدامي
ترجع سوريّا، ويرجعو الغيّابْ
ونعزف سوا لحن الفرح شامي.
العدد 1196 –9 -7-2024