الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
اتَّسمت لوحات الفنان (رشاد قصيباتي) بطابع الصفاء والسكينة والحالة التأمُّلية، والأسلوب المدروس أكاديمياً، باتجاه واقعي يميل للتعبيرية والاختزال أحياناً من تصويرالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة إلى رسم البورتريهات ومدينة دمشق وريفها في مشاهد توثيقية لحقبة تلك الزمن. كما برزت مهاراته الفنية الفائقة في رصد دقائق الشكل الواقعي وزوايا اللوحة، بينما تميَّزت ريشته بالقوة في رسم التصميم المتماسك في الهارموني العام للوحة، والولوج في أدق التفاصيل واختيار درجات اللون النضرة المبهجة، المقدِّمة للمتلقِّي إحساساً عارماً بالتفاؤل والأمل. وقد ظلَّ وفيَّاً للأصول المدرسية؛ وكان هو وزملاؤه بعيداً عن الاتجاهات الحديثة وحريصاً على توزيع الألوان فوق مسطح اللوحة باتزان محسوب.
درس قصيباتي فنَّ الديكور في مدينة فلورنسا بإيطاليا، وفن الفسيفساء والفريسكو في مدينة رافينا ١٩٣٩م، وبعد عودته إلى دمشق أقام معرضه الأول في نادي الضباط. وكعادته ضمَّ الزهور وعناصرها السائدة في زمانه ومعالم مدينة دمشق وريفها بأسلوبه الواقعي الأكاديمي في مهارات فنية وصياغة مميَّزة، وكان معرضه هذا بوَّابة عبور للتواصل مع فناني جيله أمثال: (سعيد تحسين، نصير شورى، محمود حماد، ناظم الجعفري، عدنان جباصيني).
حازت لوحته(طبيعة صامتة)، التي شارك بها في المعرض العام لفناني سورية عام (١٩٥١) على الجائزة الثانية باسم «أزهار ومندولين» المحفوظة في المتحف الوطني بدمشق.
منحه رئيس جمهورية إيطاليا اللقب الجمهوري «الفارس، وقلَّده نجمة التضامن الإيطالي.
عام «١٩٧٥» تسلَّم منصب رئاسة نقابة الفنون الجميلة، وساهم في بنائها على أسس سليمة إدارياً وفنياً، وكان منارة تضئ درب الفنانين، إذ تتلمذ على يديه عدد كبير من فناني سورية، الذين أصبح لهم دور في الذائقة البصرية السورية، وعمل مدرِّساً في كلية الفنون الجميلة ومعهد المعلمين بدمشق، وحمل على عاتقه مهمة إيصال الفن إلى شرائح المجتمع، كما درس الفنون في السعودية عام «١٩٦٥»، والكونغو «زائير» تكبير الصورة عام «١٩٦٩»م.
ولد رشاد قصيباتي في حي القنوات بدمشق القديمة، وتوجَّه نحو الفن ضمن عائلة تعمل في التجارة، وقد وضعه هذا الأمر في مواجهة محيطه الأوسع، ورأى أنه عمل غير مضمون المستقبل، ولا يُحقِّق لممتهنه دخلاً جيداً، كما أنه قدَّم تضحيات كثيرة، وتنازل عن جميع المغريات في سبيل إعداد نفسه عن طريق الدراسة المتخصِّصة على نفقته الشخصية خارج البلاد، واختار إيطاليا مقصداً له، إذ وصل إليها في عام «١٩٣٦» مرافقاً صديقه محمود جلال الذي سبقه إليها قبل عامين، ثم انتقل إلى رافينا عام «١٩٣٩» حيث درس فن الفسيفساء والفريسك، وكان أول فنان سوري يدرس هذا الفن ويزاوله ويُدرِّسه في كلية الفنون الجميلة في بداية تأسيسها مطلع الستينات.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام الذي انتقل فيه إلى رافينا لم يستطع العودة إلى بلده، فاضطرَّ للبقاء هناك مع مآسي الحرب ومفاجآتها بعيداً عن أهله، وحصل على دبلوم الزخرفة في أكاديمية الفنون الجميلة الملكية في فلورنسا عام «١٩٤٠»، وبعد فترة نُقل مع قسم من الأوروبيين إلى مدينة البندقية فينيسيا حتى عام «١٩٤٦»، ثم نُقل مرة ثانية إلى روما واحتجز مع آخرين في معسكر خاص لعدة أشهر إلى أن أُفرج عنه رغم ظروف الحرب في أوروبا.
كان رشاد يرسم لوحات جميلة عن الطبيعة والطبيعة الصامتة مواضيعه المحبَّبة إلى قلبه حتى نهاية حياته.
ولما عاد إلى سورية انضمَّ إلى الفنانين التشكيليين الذين سبقوه للدراسة في أوروبا أمثال: «محمود جلال وميشيل كرشه ووهبي الحريري وغالب سالم وسهيل الأحدب.. إلخ»، وشرع رشاد يُشارك بحيوية ونشاط في مناسبات عديدة، عارضاً أعماله مع هذه المجموعة، وكان أحد المؤسسين لجمعية محبِّي الفنون الجميلة والجمعية السورية للفنون ورابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت، كما انضمَّ إلى مرسم «فيرونيز»، الذي أسَّسه «عدنان جباصيني» عام ١٩٤١ في دمشق، وجمع أهم فناني تلك المرحلة من جيلين متتاليين مثل: «محمود حمَّاد، ميشيل كرشه، عبد الوهاب أبو السعود، نصير شورى، ناظم الجعفري، خالد العسلي، جميل مسعود الكواكبي»، كما استضاف في المرسم سعيد تحسين، فاتح المدرس، سهيل الأحدب، غالب سالم، ألفرد نحاس. غير أن مشاركته الأهم كانت عام (١٩٥٠) حين بدأت مديرية الآثار العامة ووزارة المعرفة (وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي حالياً) بتنظيم المعرض السنوي في المتحف الوطني بدمشق حيث نال في المعرض الأول الجائزة الأولى في التصوير مع محمود حماد وصبحي شعيب، وفي السنة التالية (١٩٥١) نال الجائزة الثانية مناصفةً مع نصير شورى.
وهو مثل معظم جيل الرواد الأوائل اتسمت أعماله بواقعية تلامس أحياناً الانطباعية دون أن تستغرق فيها أو تلتزم بقواعدها، وقد بقي طوال حياته ملتزماً بأسلوبه الواقعي المار بأربع مراحل تُمثِّل الأولى أعماله المنفَّذة في إيطاليا (١٩٣٨-١٩٤٦)، وكانت أمينة للمفاهيم الأكاديمية لجهة التكوين المستقر، المتماسك، والعناية بتدرُّج الظل والنور مع الحفاظ على الخلفيات الداكنة، كي يُبرز الشكل المُراد رسمه، كما اتسمت أعماله بهامش أوسع من الحرية الإبداعية دون التخلي كلياً عن المفاهيم التقليدية، وهو ما يبدو واضحاً في وجهتيه الذاتية. وفي لوحة ملهمة الفنانين (الآنسة هالة ميداني)، التي صوَّرها ضمن تظاهرة نظَّمتها صالة الفن الحديث عام (١٩٦١)، وفي العقدين الأخيرين من حياته تفرَّغ للعمل الفني، واتجه أسلوبه إلى الواقعية وتبسيط وتلخيص الأشكال والاهتمام بالمساحات اللونية المتقاربة. ومع تبدُّل مراحل تجربته بقي رشاد مصوِّرالطبيعة بعفويتها وبساطتها.
وفي عام (١٩٨٠) كُلِّف رشاد قصيباتي بإدارة فرع دمشق المؤسَّس حديثاً، وبرزت شخصية الفنان الحيوية والمثيرة للدهشة والإعجاب في ذلك العمر المتقدِّم، وكانت المرحلة الذهبية في إدارة الفرع بالعفيف، إذ استطاع المجلس التأسيسي المؤلَّف من (حسان أبو عيَّاش، قتيبة الشهابي، بدر الدين أيوبي، جورج شرابية، مجيد جمول) الحصول على موقع (خزان ناظم باشا) في منطقة العفيف ليكون مقرَّاً للفرع، وأسس في حديقتها ندوة الرواق العربي، وقام رشاد قصيباتي المدير بتأهيل الخزَّان ليكون صالة للمعارض، نُظِّمت فيه كثير من المحاضرات والحفلات والمعارض ومشاريع تخرُّج طلاب كلية الفنون الجميلة.
وفي عام (١٩٨٧) تمَّ بناء صالة شتوية. أما عام «١٩٩٠» فودَّعنا فيه الفنان التشكيلي الكبير رشاد قصيباتي بعد مسيرة حافلة بالعطاء، وتمَّ تسمية مدرسة ابتدائية باسمه عام ١٩٩٣ من قبل وزارة التربية، التي نظَّمت له معرضاً خاصَّاً في ذكرى رحيله.
العدد 1197 – 16 -7-2024