“التهرب الضريبي”: ثقافة متجذرة أم ظاهرة لها أسبابها الإجرائية والموضوعية؟!

الثورة – تحقيق وفاء فرج:

التهرب الضريبي ظاهرة موجودة في كل المجتمعات، ولكن في مجتمعنا هي ظاهرة متفشية جداً، وهذا لم يأت من عبث وله أسباب كثيرة، فما هي هذه الأسباب، وكيف يمكن الوقوف عليها، ومعالجتها؟.
“الثورة” وخلال لقاءاتها مع المختصين والمعنيين في هذا الشأن استعرضت أراءهم، ليحدد الباحث الاقتصادي والصناعي عصام تيزيني أهم النقاط قائلاً: منها ما هو موضوعي كشعور المتهرب من الضريبة أن الضرائب التي يدفعها لا تنعكس على حياته وعمله اليومي من حيث الخدمات المقدمة له، وخاصة ضرائب الرواتب والأجور التي يدفعها الموظف من راتبه، والذي هو لا يكفيه، أو ضريبة العقار السنوية، أو ضريبة النظافة والبلديات، والضرائب المفروضة على الاستهلاك، وغيرها الكثير، وهذا في الحقيقة واقع نلمسه بشكل يومي!.

مجتمع الأعمال.. وثقافة الالتزام

ويضيف: أما التهرب من الضرائب المفروضة على أرباح الباعة والتجار والحرفيين والصناعيين، فهذا أمر ذو شجون، وأسبابه عديدة أهمها- وباعتقادي- هو غياب ثقافة الالتزام عند مجتمع الأعمال، خاصة خلال السنوات العشرة الأخيرة، وتجلى ذلك للأسف بتدني الشعور بالمسؤولية تجاه الدولة والمجتمع، معتبراً أنها نقطة تسجل على القطاع الخاص خلال الحرب العدوانية، والأزمة الطاحنة التي عاشها بلدنا، وعليه زاد الجشع والطمع لدى هذا القطاع، وثمة من استغل الظروف الصعبة، وجنى أرباحاً فلكية دون دفع ضرائب سوى الفتات منها.
وهنا علينا أن نعترف- والكلام للباحث تيزيني- أن ذلك لم يكن ليحدث لولا ترهل النظام الإداري المالي، وهذا للأسف كان عاملاً مساعداً للمتهربين ضريبياً، لأن التعامل معهم لم يكن صارماً ووجدوا من يقدم لهم خدمة الطريق الذي يوصلهم بعد التهرب الضريبي، ليصبح سلوكاً طبيعياً واعتيادياً، ناهيك عن عدم قيام المكلفين بتحصيل الضرائب بعملهم الفعلي.

العدالة الضريبية
ويرى تيزيني أن الحل يمر عبر شقين مهمين.. الأول الشق المتعلق بالطبقة الفقيرة التي لا يجوز مطالبتها بأي نوع من الضرائب خاصة في هذه الظروف، فلا يعقل أن نخصم من راتب الموظف ضريبة رواتب وأجور، ولا يجوز أن نأخذ من المواطن العادي ضريبة استهلاك (صحيح يدفعها البائع، ولكن في النهاية يتحملها المستهلك)، ولا يجوز أن نطلب من المواطنين أي شكل من أشكال الضريبة على المعاملات أو فواتير الكهرباء أو الاتصالات وغيرها، فهذا كله غير مبرر مرحلياً نتيجة الظروف المعيشية القاسية
العلاج والحلول
أما الشق الثاني من وجهة نظر تيزيني.. فهو المتعلق بالضريبة على الأرباح الناتجة عن العمل التجاري أو المهني، فالمنطق الاقتصادي يقول من يربح عليه أن يدفع جزءاً من أرباحه للخزينة العامة للدولة، وهذا منطق مطبق في كل العالم، وعليه يجب تحسين الأنظمة المالية والقوانين المتعلقة بالضرائب على الأرباح بحيث تكون عادلة، ولا تؤدي إلى التهرب هذا أولاً، وقد لمسنا في الحقيقة هذا التحسن مؤخراً خصوصاً تطبيق نظام الربط الالكتروني الذي وضعته الإدارة الضريبية، والذي يبعد العامل البشري عن التدخل.
وثانياً- بحسب الباحث تيزيني- تخفيف الضغط على المنتجين المبتدئين بإعفائهم من دفع الضرائب لمدة ثلاث سنوات على الأقل تشجيعاً لهم، وإفساحاً للمجال لكل من يريد أن يعمل كي يحسن من دخله.
وثالثاً- المتابعة الحثيثة والدائمة والرقابة على أداء كل من له علاقة بالتكليف الضريبي وتحسين رواتبهم، بحيث يقوموا بواجباتهم بشفافية، بما يعود على الخزينة العامة.
ورابعاً- تخفيض نسبة الضريبة على الأرباح بحيث تفسح المجال للذي يفكر بالتهرب الضريبي أن يعيد حساباته ويلتزم ويقوم بواجبه على أكمل وجه.
ويقول الباحث الاقتصادي: يجب العمل على تحسين العلاقة عموماً بين دوائر الرقابة المالية وبين أصحاب العمل وإجراء لقاءات توعوية مستمرة كي تعود الثقة بين الطرفين، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى برامج عمل منهجية ومستدامة ومشوار شاق من الجهد.

معالجة الأسباب
من جانبه يرى عضو غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق أنه اليوم تتم معالجة النتيجة، وليس السبب بوضع غرامات على التهرب الضريبي من دون البحث عن أسباب التهرب من المنتج سواء كان يستطيع العمل ضمن قنوات نظامية أم لا، معتبراً أن هذه هي المشكلة الحقيقية بوجود تشابكات، وأنه لو فرضنا أن منشأة صناعية يوجد لديها ٣٠ عاملاً، إلا أن المسجلين بالتأمينات لا يتجاوز عددهم خمسة إلى عشرة عمال، و٩٠% من أصحاب العمل غير مسجلين جميع عمالهم، والسبب أن الرسوم والأعباء الخاصة بتسجيل العمال بالتأمينات مرتفعة، إضافة إلى أنه سيدفع ضريبة رواتب وأجور.

فإذا كان العامل راتبه مليون ليرة سيدفع رسوم وضرائب مابين ٣٠٠ إلى ٤٠٠ ألف ليرة، وهو حق لخزينة الدولة ضمن الأنظمة والقوانين، ولكن إذا نظرنا من الطرف الآخر أن الصناعي غير قادر على تسجيل ٢٠ عاملاً، ويدفع عن كل عامل بالشهر، ما يقارب٤٥٠ ألف ليرة، وبالتالي الإشكالية التي نقع فيها أن الحد الأدنى المعفى من الراتب، ما يقارب ٢٩٠ ألف ليرة، فإنه يعتبره قليلاً، إذ لا يمكن أن يكفي هذا المبلغ أي شخص ليعيش، ويدفع عليها ضريبة رواتب، وأن الرقم التأميني الذي يدفعه مرتفع ما يقارب ٢٤%، في حين تعتبر التأمينات أن هذا الرقم موزع: ١٧% على رب العمل و٧% على العامل، وفي الواقع رب العمل يتحمل الرقم كاملاً، وبالتالي رقم ٢٤٠ ألف ليرة الذي يدفعه صاحب العمل يشكل عليه عبئاً، لأنه عندما نضع ٢٤٠ ألف ليرة بعد ٣٠ سنة خدمة يحصل العامل على راتب تقاعدي لا يكفيه شيئاً، وبالتالي التأمينات لا ترفع الرواتب بما يعادل التضخم، بحيث تسدد للعامل بنفس القيمة الحقيقية، وإنما تسدد فقط رقم، وليس بقدرته الشرائية.
غياب المحفزات والتعويض
ونوه الحلاق بنوع آخر من التهرب الضريبي للذين يعملون في ظل اقتصاد الظل، كالحرف الشخصية، فهؤلاء كلهم يتهربون ضريبياً، والسؤال: لماذا لا يقومون بالتصريح عن أنفسهم كما في بقية دول العالم، والسبب لعدم وجود تعويض لهم مقابل عملهم، وأما النوع الثاني من التهرب الضريبي كمهن المحامي والطبيب، فهؤلاء لا يصرحون عن دخلهم الحقيقي، والسبب في حال صرح عن سنة مثلاً دخله ٥٠ مليون ليرة، والسنة التالية حصل على دخل ١٠ ملايين، فإن الدوائر المالية لا تعترف بهذا الأمر، ولا يمكن أن تقوم بإعادة تخفيض الضريبة حسب الدخل في السنة الثانية، والذي انخفض، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على أي فعالية بيع، مبيناً أن الكل يحاول التهرب بشكل أو بآخر، لافتاً إلى أن مراقبي الدخل الذين يقومون بعمل آخر بعد عملهم بمسك دفاتر، لا يعترفون أنهم حصلوا على مليون ليرة لمسكه دفاتر، حتى لا يدفع عنها أي عبء ضريبي، إضافة إلى الأعمال الفكرية.

المعالجة
وبين الحلاق أن معالجة مشكلة التهرب الضريبي، تتم ليس عن طريق محاربة النتيجة، وإنما معالجة السبب، بحيث يكون الحد الأدنى المعفى الحقيقي، مثلاً أسرة مؤلفة من ثلاثة أفراد تحتاج بالحد الأدنى- وإذا لم يكن لديهم بدل إيجار بيت أو سيارة- يحتاجون إلى ٨ – ١٠ ملايين ليرة مصروف في الشهر، فعندما أمنحه إعفاء عن ٨ ملايين ليرة في الشهر وأطلب منه التصريح عن الدخل الحقيقي فإنه يصرح عن دخله الحقيقي، وعندما تمنحه حوافز لتسديده أرقاماً ضريبية حقيقية، كتأمين على الحياة أو صحي أو تعليم مجاني، فإنه يصرح عن دخله الحقيقي، ولا يكون متهربا ً ضريبياً، وعند التقاعد سيستلم حقيقة ما سدده من تأمينات اجتماعية، وسيكون هذا الرقم الذي دفعه، كضريبة رواتب ينعكس إيجاباً عليه، فإنه سيصرح عن دخله.
إدارة ملف التكليف الضريبي
بدوره الباحث الاقتصادي الدكتور فادي عياش أوضح أن اقتصادنا اليوم أصبح اقتصاد ظل بنسبة لا تقل عن 70% بمفهوم الكلفة الاجتماعية، والتي تتضمن الشفافية والإفصاح، أي أن التهرب الضريبي ظاهرة متجذرة في ثقافة العمل لدينا، وأصبحت الكثير من المفاهيم ضبابية سواء من حيث الفهم أو الممارسة كمفهوم المسؤولية المجتمعية، أي مسؤولية قطاع الأعمال تجاه المجتمع.
ويرى أن أحد أهم الأسباب هو إدارة الحكومات المتعاقبة لملف التكليف الضريبي، بالإضافة إلى اعتبارات موضوعية لدى قطاع الأعمال تتعلق بالعدالة والنزاهة والشفافية، وأسباب أخرى.
جباية مفرطة
وأضاف عياش: بالعموم قضايا الضرائب تتعلق بعدة جوانب، فمثلاً الجانب التطبيقي، وهنا يرى أن الحكومة اعتمدت ضغط النفقات، وعلى الجباية المفرطة وبأثر رجعي كسابقة لم تحدث من قبل، عوضاً أن تنتهج التنمية لزيادة الإنتاج أولاً، ومن ثم يمكنها زيادة وارداتها الضريبية وغيرها، (فألم الدفع من الزيادة أقل تأثيراً معنوياً)، مما أدى بالإضافة إلى العوامل الأخرى، وإلى وصولنا إلى أسوأ وأعقد حالة يمكن أن يصلها اقتصاد أي بلد، أي “الكساد التضخمي الجامح”، وأخطر ما فيه أنه حالة يكاد يُحال علاجها ذاتياً ومحلياً، والحل تحقيق مصالح متبادلة بشفافية وعدالة.

وبين الدكتور عياش أن التهرب الضريبي أصبح ثقافة، وتغيير الثقافات بشكل طبيعي يحتاج لجهود كبيرة وزمن طويل، ومما يسرع في ذلك تحقيق المصالح المتبادلة بشفافية وعدالة، وعندها تنتفي معظم مبررات التهرب الضريبي، ومن هذه الإجراءات، التحديد الدقيق للتكاليف وبالتالي إمكانية تقدير موضوعي للأرباح، وتطبيق نظام الفوترة مما يسهم في تحديد حجم الإيرادات الحقيقية، والتوسع في الربط الالكتروني، إضافة إلى التشجيع على تطبيق مفاهيم المسؤولية المجتمعية للشركات مقابل امتيازات ضريبية، وتطبيق دعم المخرجات عوضاً عن دعم المدخلات في الإنتاج والتصدير لتحديد التكاليف الفعلية والتحفيز من خلال الامتيازات الضريبية، والعمل على نشر ثقافة تمنع التهرب الضريبي، واعتماد مبادئ الحوكمة والشفافية

والإفصاح والتشجيع على التحول من الشركات العائلية، وشركات الأشخاص إلى شركات الأموال، ولاسيما الشركات المساهمة المغفلة، وتنمية سوق دمشق للأوراق المالية، والتشجيع على انضمام الشركات المساهمة إليه.

آخر الأخبار
الخارجية ترحب بمبادرة قطر: خطوة حاسمة لتلبية الاحتياجات الملحة للطاقة في سوريا الدكتور الشرع: تفعيل اختصاصات الصحة العامة والنظم الصحية للارتقاء بالقطاع وصول الغاز الطبيعي إلى محطة دير علي.. الوزير شقروق: المبادرة القطرية ستزيد ساعات التغذية الكهربائية مرحلة جديدة تقوم على القانون والمؤسسات.. الشرع يوقِّع مسودة الإعلان الدستوري ويشكل مجلساً للأمن القو... الرئيس الشرع يوقِّع مسودة الإعلان الدستوري تاريخ جديد لسوريا وفاتحة خير للشعب غياب ضوابط الأسعار بدرعا.. وتشكيلة سلعية كبيرة تقابل بضعف القدرة الشرائية ما بعد الاتفاق.. إعادة لهيكلة الاقتصاد نقطة تحول.. شرق الفرات قد يغير الاقتصاد السوري نجاح اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية.. ماذا يعني اقتصادياً؟ موائد السوريين في أيام (المرق) "حرستا الخير".. مطبخ موحد وفرق تطوعية لتوزيع وجبات الإفطار انتهاء العملية العسكرية في الساحل ضد فلول النظام البائد..  ووزارة الدفاع تعلن خططها المستقبلية AP News : دول الجوار السوري تدعو إلى رفع العقوبات والمصالحة فيدان: محاولات لإخراج السياسة السورية عن مسارها عبر استفزاز متعمد  دول جوار سوريا تجتمع في عمان.. ما أهم الملفات الحاضرة؟ "مؤثر التطوعي".. 100 وجبة إفطار يومياً في قطنا الرئيس الشرع: لن يبقى سلاح منفلت والدولة ضامنة للسلم الأهلي الشيباني يؤكد بدء التخطيط للتخلص من بقايا "الكيميائي": تحقيق العدالة للضحايا هدوء حذر وعودة تدريجية لأسواق الصنمين The NewArab: الشرع يطالب المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للانسحاب من جنوب سوريا