الملحق الثقافي- رولا محمد السيد:
ماري زيادة أو (مي زيادة)، كما عرفها الوطن العربي، واختارت هي أن تُسمَى، هي الكاتبة اللبنانية التي تركت أثراً بالغ العمق في الأدب العربي.
لعل الاسم الأول الذي يتبادر إلى الذهن أو ينبغي أن يتبادر إلى الذهن في الثقافة العربية المعاصرة هو اسم الكاتبة اللبنانية-الفلسطينية مي زيادة التي عاشت معظم حياتها وبنت شهرتها في مصر في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
ولدت «مي زيادة» بمدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني وأم سورية الأصل فلسطينية المولد، كانت عاشقة للموسيقا منذ الطفولة فأتقنت عزف البيانو.
عاشت في الناصرة حتى الثالثة عشرة من عمرها ثم انتقلت إلى لبنان ودخلت مدرسة الراهبات وأكملت دراستها الثانوية هناك حتى جاء عام 1907 عندما انتقلت إلى قاهرة المعز لتبدأ شوطًا آخراً في حياتها هو الذي غير حياتها كليًا وانطلقت منه شخصية»مي زيادة» التي عرفها العالم العربي.
عاشت «مي» من عام 1929 حتى عام 1932 فترة هي الأقسى في عمرها حيث توفي والدها «الياس زيادة» عام 1929 ، ثم توفي «جبران» في عام 1931 وأخيراً والدتها عام 1932.
لم تتحمل «مي» كل هذا الفقدان فاعتزلت الحياة الأدبية وانزوت وحيدة، مما دعا بعض المقربين منها لإرسالها إلى لبنان حتى تكون بالقرب من أقاربها ظنًا منهم أنهم قد يخففوا عنها شعورها بالوحدة، ولكن للأسف أقاربها هم من استغلوا حالتها السيئة وأودعوها مستشفى للأمراض النفسية في لبنان لمدة تسعة أشهر، طمعاً في «المطبعة» التى تركها لها والدها إرثًا.
وتمكنوا من الحجر على أملاكها بحجة فقدانها لقواها العقلية، في هذه الأزمة كان أكثر من وقف إلى جوارها هم الأدباء والكتاب الذين تمكنوا من إخراجها من تلك المستشفى ونقلها لمستشفى خاص ومن ثم الإقامة لبعض الحين لدى المفكر اللبناني أمين الريحاني، بعد ذلك بفترة عادت إلى مصر لكنها لم تستقر في مصر عاشت بين مصر وإيطاليا حتى وفاتها المنية في مصر داخل مستشفى المعادي عام 1941 عن عمر يناهز 55 عامًا.
حتى قبرها تحدث باسمها فكتب عليه «هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصّات قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت ثم قضت».. كُتِبت هذه الجملة بناءً على طلبها هي شخصياً ليبقى قبرها يتحدث عنها حتى
قالت هدى شعراوي فيّ:
تميزت «مي» بحبها للشعر والترجمة والنقد فكانت ظاهرة مختلفة، لم تكتف بنوع واحد من الأدب بل تعددت مواهبها وفي هذه الفترة كانت الصالونات الثقافية سبباً من أسباب شهرة العديد من الأدباء ولذلك أسست صالونها الأدبي عام 1913 فى شارع عدلي حتى يكون مجاوراً لمنزلها وعقدت ندوة أسبوعية عرفت باسم «ندوة الثلاثاء» ثم انتقلت هذه الندوة في عام 1921 إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام واستمرت «ندوة الثلاثاء» لعشرين عامًا، تجمع فيها صفوة شعراء وكتاب هذا العصر أمثال: أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق وعباس العقاد وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي وخليل مطران وأمير الشعراء أحمد شوقي.
كانت مي زيادة متميزة فى كتاباتها فكتبت في كل شيء، وقامت بتحليل كتابات الرجال وطالبت بحريتها وحرية النساء بصفة عامة، وكتبت 14 كتابًا أولها: المساواة، باحثة البادية، عائشة التيمورية، غابة الحياة، ابتسامات ودموع، بين المد والجزر، كلمات وإشارات، الصحائف وغيرها، إلى جانب مجموعة كبيرة من المقالات.
كانت مي زيادة معشوقة الأدباء فقد أحبها وهام بها حباً الصحفي أنطون الجميل والشاعر خليل مطران لكن في صمت، وكتب فيها مصطفى الرافعي قصائد الشعر، أما عباس العقاد فعندما سئل عن أحب النساء إلى قلبه قال سارة ومي زيادة، ومن هنا كانت كتابتها للشعر الرومانسي، ونشرت أجمل مقالاتها في جريدة الأهرام بدءاً من عام 1922، ورغم كثرة عشاقها لم تتزوج.
وبعد انتهاء الحرب وفي عام 1926 كانت تعقد صالونًا أدبياً في بيتها عرف بـ»صالون مي» وكان مقره في مصر 14 شارع مظلوم بباب اللوق ـ شارع عبد السلام عارف حاليًا ـ وكان يضم رموز الأدب والصحافة ومنهم: عباس محمود العقاد، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، أحمد لطفي السيد، خليل مطران، أنطون الجميل، داوود بركات، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين إلى جانب عدد من صحفيي ذلك الوقت.
وبالنسبة لبعض من يعرف مي زيادة، أو ربما أكثر من يعرفها، يخطر اسمها بالبال لصيقاً بجبران خليل جبران نتيجة للعلاقة العاطفية التي نشأت بينهما، وعبرت عنها رسائل كثيرة متبادلة اشتهر منها ما كتبه جبران فقط.
إن حصر أهمية مي بعلاقتها بجبران لون من ألوان الحصار للأنثى من قبل مجتمع، بل وسط ثقافي، يرى أهميتها الحقيقية من خلال علاقتها بالرجل، مع أن لمي أهمية كبيرة تضارع أهمية الكثير ممن عاصروها، سواء من حيث محصولها الفكري الثقافي، أو من حيث قدراتها الكتابية وأسلوبها المتفرد.
كان جبران يعيش فى نيويورك ومي تعيش فى القاهرة، ورغم ذلك كانت قصة حبهما أجمل قصة حب في الأدب العربي، وكان رحيله عام 1931 من الأحداث التى كسرتها وأوصلتها إلى المرض والجنون.
تعرضت مي لمحنة شهيرة، فحين قررت إهداء مكتبتها إلى مصر بعد وفاتها قام أحد أقاربها بالحجر عليها وإدخالها مستشفى الأمراض العقلية فأضربت عن الطعام، وقرر الأطباء أنها سليمة عقلياً، وتوسط الأدباء في الوطن العربى لخروجها من المستشفى فأخرجتها الشرطة في موكب كبير، ورجعت إلى مصر بالعقار رقم 1 شارع السباع ـ صبرى أبو علم حاليًا ـ لكنها عاشت في عزلة تامة، وأصيبت بالضعف والهزال، ووضعت كتاباً بعنوان «العصفورية» يحكي معاناتها في مستشفى المجانين، حتى رحلت في 17 تشرين الأول عام 1941 بمستشفى المعادي بالقاهرة.
العدد 1201 – 13 -8-2024