الملحق الثقافي- علي حبيب:
مازال حبر الشاعر والنقاد السوري ممدوح السكاف غضاً طرياً، وعلى صفحات جريدة الثورة وفي الدوريات السورية الشاعر الذي مات حزناً على ما جرى لسورية ننتقي اليوم بعضاً من بوحه المؤلم يقول السكاف: خذ ملكوت الوطن إلى بيتك… مد له مائدة ناضجة من خبز الحب، من لقمة الأرض.
سائغة شهية تمضغ… تغذي.. تغذى بإكسير العشق…. يبارك الله شجرة العائلة المتآلفة المؤتلفة… يسري ماء الشعاع عذباً في أنساغها… تثمر بالتواد والمحبة… تلك أول الكلمات في سفر الهيام ذلك ترتيل مبتدأ الغرام.
سنابل القمح… بنت محراث يدك، الصخر… الجدب، إلى خصب ينقلب…
عندما تفكر بنفسك، فكر به… بالوطن.. قبل نفسك… حنطتك هو ورغيفك… ملحك وصبرك… ليلك تسبّح في أمواج ظلامه المضيء… نهارك تفرش على سجادته سجادة وقتك مع ركوة القهوة أو إبريق الشاي…. تقيل بعد تعب…. يحضنك بهدهداته… لتكن ذاتك عصب قلبه…. دم شرايينه المشبعة بعطائك… جدرانك وسقفك ونوافذ منزلك وموقد مطبخك وإدام أولادك… حين تفعل له ذلك وأوفر منه وأعمق… يتحد جسدك الحياتي بروح الوطن الأثيري… يتماهى كل منهما بالآخر… أنت تستحيل إلى تراب سمائك هو تراب سمائك يضحي في مطابقة لا تضاد فيها… وإنما جناس من جنس خاص… كينونة من كون استثنائي… حلول في الهيولى… إقامة في الذرة.
ادع الوطن إليك… لا ضيفاً… لا زائراً… لا مستأجراً… لا عابراً… إنما مالكاً مقيماً… مطلق الملكية في الحب… تتساوى المواطنية فيه مع جميع من يهواه ويحميه… يهبه أكثر مما يأخذ منه… يصفيه وجدانه في صفوه ويمحو عنه أحزانه في كدره.
الوطن… أجمل شاعر رومانسي حالم بجمال المستقبل يتشكل بفعل مقولة يتبناها: العمل ينتج عنه الأمل… مترعاً بالرأفة الرؤوم والحق المنصف ينشد نشيده لسواسية أبنائه يحبونه من الصميم ويفتدونه بكل ما يملكون من ثمين ويذودون عن حياضه وحماه حين يعتوره ضرر أو يحيق به خطر، فيهتف متهلل الأسارير، حنون الصوت، لكم جميعاً كلي يا أولادي… توازعوه فيما بينكم بالعدل والقسطاس… بقدر حجم حبكم وإخلاصكم لي وعملكم من أجل عزتي ورفعتي ومنعتي وقوتي فأنا:
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء، والماء بارد
1- حماة الديار عليكم سلام
هنا في مدرستي الإبتدائية (مدرسة الإرشاد) الكائنة بين حارتي (صليبة العصياتي) و(الورشة) من حي (باب الدريب) في مدينتي الحبيبة (حمص) كعصفور أزغب، مثلي مثل بقية التلاميذ في سني، تعلمت إنشاد نشيد الوطن للمرة الأولى في حياتي… حفظته بسلاسة وسهولة ،وأريج وعبير في القلب يترقرق قبل العقل، في الخيال يخضر قبل الذاكرة وصرت أردده في باحة الصباح، كل صباح مع لداتي وأقراني والمديرين المتوالين على إدارة مدرستي والمعلمين المتعاقبين على التعليم فيها بصوت واحد وإيقاع واحد ونشوة واحدة وحماسة واحدة، قبل الدخول إلى الصفوف وارتشاف الدروس، دون أن أفهم أو أستوعب إلا القليل من معانيه، أو أسمعه في مواطن أخرى ينساب مترافقاً بموسيقا الفرق الكشفية يصدح في الاحتفالات والمناسبات الوطنية والقومية، لكنه مع مطالع الفتوة وأول الشباب وإلى لحظتي الراهنة أنا الشاعر العاشق لوطني حتى الدنف، وقد:
جاوزت سبعيني واثّاقلت قدمي
وكنتُ صرحاً ويمضي العمر ينحدر
أصبح نشيداً سيمفونياً لدورة أوردتي الدموية، يسيل رحيقه مع كرياتها ويجري شهده في خضابها، ويجعلني أظن ظناً خيالياً لا تفسير منطقياً له أن أية تربة ضاربة إلى حمرة أو احمرار في حوض وحديقة وحقل وبستان ومزرعة وغابة ودسكرة وحاكورة وجبل وجورة وحفرة أو أية ناحية أو ربع من ربوع بلادي سورية العزيزة الغالية، مروية بنجيع دماء الشهداء والضحايا والجرحى على مر الدهور، لذلك اتخذت لون شقيقة النعمان أو زهرة الأرجوان لوناً لها تتباهى به وتزدهي كأنما في وهمي وزعمي هي أبدعته وابتكرته وكانت أول من اختصت به من دون أراضي الكون كله.
تحية من الأعماق لروح ناظم كلمات النشيد العربي السوري مع فجر الاستقلال والجلاء الشاعر الكبير المرحوم خليل مردم بك ومثلها لروح ملحنيه اللبنانيين الأخوين فليفل على صنيعهما الفني الموسيقي الرائع.
2- العودة إلى مسقط الرأس
كلما شعرت بالغربة والغرابة وصعوبة التلاؤم مع المحيط الجديد الطارئ حالياً على مجتمعنا الحالي بما فيه من علائق العصر الاستهلاكي الرقمي، الشحيح العواطف والمفعم بحالات المواضعات الحضارية المسيطرة عليه حديثاً (تكنولوجيا المعلوماتية والانترنت خصوصاً) وانكباب الفرد البشري المتمادي في التعايش المستديم مع معطياتها بتلهف وممارسة تقنياتها المختلفة بشغف وهي جميعها من منتجات الحداثة الوافدة إلينا من الغرب، وأنا شخصياً أنحاز إليها وأحبذ استخدامها في مختلف مجالات البنى التحديثية الفعالة في دفع عجلة التقدم بمجتمعنا إلى الآفاق البعيدة، أقول كلما حدث لي مثل هذا الشعور رغبت من صميمي بضرورة العودة إلى زيارة مسقط رأسي لأشحن كياني بالطاقة النفسية والعافية الروحية وأستنهض ذاتي بالقدرة الإنسانية والصلة الاجتماعية حتى أستعيد شحنتي المفتقدة بسبب مغادرتي دياري القديمة إلى ديار جديدة في مسكن حديث.
أحياء حمص القديمة وحاراتها لا تزال رغم تجددها المتتابع وهدم العديد من أبنيتها الماضية وإقامة أبنية ذات طراز شبه حضاري محلها، تشعرك بحميمية المكان وخصوصية الحياة الشعبية فيه وألفة سكانه وتعاطفهم الوجداني المترجم عملياً فعلاً ملموساً على أرض الواقع فيما بينهم وليس كلاماً مجانياً يساق لغواً للمجاملة وتتأكد إيجابيته على التحديد في الأزمات والملمات.
الشوارع والطرقات والدروب والأزقة هنا… ما برحت، على الرغم من بعض تطورها العمراني وسيرها باتجاه التجدد، تنشر في صميم الروح هبات عطر فواحة آتية من عبق الزمن البسيط الجميل في ماضيه المستحب، يتجلى حضوره من خلال ممارسة العلاقات الاجتماعية المبنية على تقاليد متوارثة تجسد مفاهيم ومثلاً من التعاون والتآزر ومد اليد للمعارف والمحتاجين في الأفراح والأتراح تدعمهم ببعدها الإنساني النبيل:
كف مورقة باخضرار الندى… كلمة فياضة بدفء المودة
لا أحد هنا… في هذه الأمكنة النابضة بـ(الحنية)، إلا ويعرف جميع السكان والجيران والأصحاب والأحباب تقريباً صغاراً كانوا أم كباراً.. اسمه… أسرته.. عمله… وضعه… تفكيره… تدبيره… كأنهم أسرة واحدة تضمها بيوت متعددة، وعلى الرغم من فرض أنماط العيش المستجدة أنماط سلوكيات تتسم بطابع واقعي تتلاءم مع العصر المتطور وتوجه اقتصادي متلائم مع الزمن الجديد وميل إلى السائد في ارتداء الملابس الحديثة للرجال والنساء والأطفال دون استعمال الأناقة الغربية المتطرفة بتخط وتجاوز وإنما بقدر متحفظ من صرعة (الموضة).
العدد 1201 – 13 -8-2024