الملحق الثقافي- خالد حاج عثمان:
صاحبة تجربة مميزة ومهمة جدًا الشاعرة السورية مروة حلاوة حول حضورها الإبداعي كانت لنا هذه الوقفة الحوارية معها:
1- عندما أقف أمام المتلقّي أتواصل بقصيدتي، فلا أحبّ تشويشه بمتعلّقاتي الأخرى ولطالما طلبتُ ممّن يقدّمونني في الفعاليات الأدبيّة أن يكتفوا بذكر اسمي فحسب فاسحةً المجال أمام القصيدة لتحكي عنّي ماتيسّر من شغف.
2- أنا ابنة الماء، ترعرعت في حضن نهر وإذا كان الماء يمثل للناس الحياة والجمال فهو يحمل لأبناء الأنهار بالإضافة إلى ذلك متقابلات أخرى، إنه يحمل الموت والخوف.. الدوامات والمنزلقات الخطرة مع قصص الفتيان الغرقى والبنات الأضاحي فللوقوف على الحقيقة ومعايشة الجمال، لابدّ من المغامرة وكسر الحاجز وذلك لا يكون إلا لروح يملؤها الشغف.
هكذا نشأت في مدينتي حماة على ضفاف نهرها العاصي في بيت عتيق ضارب في عمق الماضي على مقربة من النهر كما أنه أسفل مقبرة قديمة يتجول موتاها في أوهام عجائز الحي وينتهي بمغارة عجيبة يقال إنها مسكونة بالجنيات شاء الله ولكثرة ما مرّ علينا من حروب أن تتوارثه نساء العائلة منذ أكثر من مائتي عام وإلى أن صار إلى جدتي لأمي وفيه ولدت.. أنام على صوت ناعورة وأصحو على زقزقة العصافير ورائحة ياسمينة تعشقت جسد دالية تتكئ على نوافذنا وتستند عليها أصص الزنابق والنرجس لتتسلق إلى السطح على درجنا المسوّر بمختلف الأزهار والنباتات العطرية الملونة .. هناك في الأزقّة الحجرية العتيقة تفرش أشجار الأكاسيا والزيزفون والكينا طرق الجميلات بلطائفها من زهر وطيب كما تفرش السماء طريق القمر بالنجوم.
هناك أينما سرت ترى عروق اللبلاب تنبض على بياض الحجر المتلاصق بالطين المشوي، ولفرط قِدمه تشعر أنه بقايا آدمية نشرتها الزلازل التي أتت على المدينة كل بضعة أجيال ودمرتها لتنشأ بقوة الماء خلقاً جديداً فلا غرابة أن يكون لكل حجرة حكاية ولكل باب أسئلة ولكل غيمة تعبر مبكى ولا غرابة أن تسمى حماة مدينة الألف شاعر فسحر المكان وحده يُنطق الحجر.
هناك نشأت مدلّلة بين جمالات ناعمة لم تكفِ كي تلوي رأسي عن جمالات أخرى محظورة محرّمة لكنها أكثر إثارة للعاطفة والعقل معا فكان لابد من أن أغير بعض طرقي لاستراق بعض خطوات أقرب من النهر الذي يسحب إلى قاعه من فتية المدينة، وأدنى إلى القبو الذي يقتنص من فتياتها، ليغبن في ظلمته بلا عودة أو ليعيدهن كجثث ضحايا وحوش بشرية من بقايا متنفذي عصور الاحتلالين العثماني والفرنسي بوسم ما يدعى جريمة شرف وكأن العجز عن عقاب الذئب يغطيه دفن ما تبقى من الغزالة.
هناك حيث سرتَ تتعلم كيف تصغي للمكان وتسمع التاريخ بصيغة مختلفة عما قرأته في الكتب سيكون من الممتع جداً معرفة قصص البطولات الفردية لأهل المدينة لتحريرها من موجات الاحتلال الغابرة لن يخبرك أي كتاب عن (حمدو السكران) وهو يتعرّض من بعيد لحارس البلدية يناديه يا حااااارس مووووت مووووت ولووووو ولك موت كرمز لإنهاء ما يمثّله وظيفيًّا أثناء حكومات الاحتلال الأجنبيّ وما صاحبها من قهر وفقر وفقد وظلم.
لن يخبرك عن الجميلة (مريم) التي اختطفها ضابط عثماني فاطرًا قلب زوجها ليهيم في الطرقات ويغني (مريم مريمتي عيوني مريما .. عسكر عصملي خطفوا مريما يا دلي…. )
لن يخبرك عن (تومان) الذي أوقع بالفرنسيين كثيراً من الخسائر قبل أن يحاصروه في مخبئه الثوري ويقوموا بإعدامه ولن يخبرك عن حبيبته المغنية (شمسة) التي أرهقها الحزن عليه لكنها لم تتوقف عن الغناء لحبيبها الشهيد لتحوّل قصتهما إلى ملحمة تناساها معاصروها تهميشاً لفنّها الذي لم يكن مقبولاً ذلك الوقت فلم تسمع بها الأجيال اللاحقة.
ستمشي على ضفاف النهر العاصي وتستمع إلى عنين عجائزه اللواتي مازلن يدرن كصبايا وإذا كنت تحتفظ ببعض من طفولة روحك فقد يتبادر إلى ذهنك سؤال طفولتي : هل تدور الناعورة فتحرّك ماء النهر أم أن جريانه يديرها.
وإن كنت شاعرًا فستتعلّم منه كيف تقوم بعصيان نواميس المكان وتخرج على أعرافه بينما تظلّ وديعًا طيبًا نقيًّا وكريمًا
ستشهد أن ولادة النار تبدأ من دمع غيمة
وترى أرواح الأغاني يَقمنَ من رئات القصب
ستمشي ستقطع القناطر العتيقة وتبلغ (باب النهر) حيث منتهى السحر وباب الجنة
يا إلهي الجميل .. وفي قلبي كل ذلك الشجن، كيف قد لا أكون شاعرة.. ؟!
سأقف أيضًا فيما يخصّ المكوّن الاجتماعيّ بما أثّر في تجربتي، وتحديدًا عند جزئيّة الزواج بشاعر، فقد تزوّجت من الشاعر محمّد منذر لطفي منذ 24 عامًا.
في الواقع ثمّة مسافة فاصلة بين أن تعيش مع شاعر أو إنسان عادي هي ذاتها المسافة بين التعبير عن الحب بطريقة مباشَرة وأخرى تعتمد المجاز وبما أنّ الشاعر يعيش في واقعه وخارج واقعه ربما بشكلٍ أكبر، من هنا سيكون له هويّتان فكيف انعكس ذلك على حياتي الأدبيّة والشخصيّة، وكوّن جزءًا كبيرًا من هويّتيّ معًا..؟! حسنا لأكن صريحة.. الزواج بشاعر أمرٌ في غاية المتعة ستعيش المرأة الفصول الأربعة في يوم واحد أو ربّما ساعة أو لحظة ستختبر العشق الملك الجمال الرقّة والحريّة إلى جانب النزق وسرعة الانفعال.. التشظّي الأنانيّة الاستلاب والغيرة وتخرج من كل هذا بصمت يطول أو يقصر تبعًا للزمن اللازم لكتابة قصيدة، تتلوه ضحكةٌ لايشبهها شيء أكثرَ من براءة الأطفال نعم إنه الشاعر بطقوسه الرومانسيّة الغارقة في الدلال اللغويّ والأخرى التي تتحكّم فيها حالاته الانفعاليّة المتعدّدة، ستستمتع أقلّ وتعاني أكثر من لم تكن شاعرة، لكنّ الأخيرة على متعتها العالية فستدفع ضريبةً باهظةً جداً بحصولها على نيشان زوجة الشاعر وما يتبعه من متعلّقات وأنا حقاً لا أعرف كيف نجوت من حباله الشعريّة المتينة التي كان يلفّها حولي في محاولاته ليجعل منّي نسخةً عنه حبًّا بي أولًا ولضمان استمرار لونه الشعريّ ثانيًا، وهو صاحب مدرسة جماليّة ممتدّة على خريطة الوطن وله تلامذته ومريدوه الذي ساروا على نهجه.
3- اعتدت الكتابة مع نعومة أحرفي الأولى فقلّدت أناشيد المدرسة بكتابة ما يوازيها عدداً وشكلاً وضبطًا معتقدةً أنّ الأمر يجري هكذا، وفي الصف الخامس الابتدائي كان لي ما أسميته (دفتر أشعاري) وهو سريّ للغاية لم يخرج للنور إلاّ بين يدي الموجه التربوي(أ.اسماعيل بطرش)، عندما كان يحضر درساً لمعلّمتنا، كان قلبي يخفق كعصفور صغير خشية أن يكرر ماتقوله المعلمة عن مواضيع التعبير.. الموضوع جميل جدًا لكن حبذا لو كان من كتابة يدك، رافضة سماع دفاعي، لا أنسى أبدًا ابتسامته لما قال لي استمري في الكتابة، ثمّ ليقوم بإخبار الإدارة بأن هذه المدرسة ستخرّج شاعرة اسمها مروة حلاوة.
4-كان لهذا الموقف بالغ الأثر في نفسي.. فقد شعرت أنّ هذا قدري ولامفرّ من كونه، وأعتبره النقطة الذهبية الأولى في كلمة شاعرة.
وسائل التواصل الاجتماعيّ..
من هنا لابدّ للشاعر من جذبه وإغوائه بل وإشراكه الإبداع ليقتنع بالاستماع والمتابعة وسط إغراءات وانشغالات مجالات الحياة الأخرى، لقد قرأت وسمعت كثيرًا عن فترة خمسينيّات وستّينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، تلك الحقبة الذهبيّة في علاقة الشاعر بالجمهور حيث كانت المدرّجات والمسارح في المهرجانات وأماسي الشعر تغصّ بالجماهير العريضة من شرائح المجتمع كافّة، ومن ثمّ لتتراجع كثيرًا مع موجات الغموض والغرابة التي صبغت نصوص كثير من شعراء الثمانينيّات من القرن نفسه، فكان ذلك أشبه بعمليّة تهميش ثمّ إقصاء للجمهور أدّت إلى نفوره من الشعر واعتبار الشاعرالحداثيّ كائنًا غرائبيًّا يهذي بما لا يمكن فهمه أمّا الناظم التقليديّ فليس أحسن حالًا وبخاصّة في أوساط الشريحة المثقّفة بما يثير من ملل وسأم جراء الاجترار في الأساليب بالإضافة إلى سخف الكثير من مضامينه، هذا وإن لم ينطبق على الجميع فقد أصبح سمة، ليفقد الشعر تدريجيًّا وظيفته القديمة في صناعة الرأي العام وتعبئة الشعب.. ما حمّل شعراء الألفيّة الجديدة ذلك العبء الكبير في إعادة استقطاب العامّة، فهل يفعلون؟.. أظنّه مع صعوبته ممكنًا بشرط العودة إلى ذلك النصّ الذي يشبه ما يعايشه الناس، ذلك النصّ المفهوم بما لا يخلو من تحليق يثيرهم ليرتفعوا أكثر ويستفزّهم لولوج فكرة الشاعر دون تعالي الأخير عليهم وإيهامهم بالغباء.
ج…
5- تتّسم مجتمعاتنا العربيّة بالتنوّع والتعدّدية في الانتماءات السياسيّة والإيديولوجيّة والدينيّة والمذهبيّة والثقافيّة، من هنا لا أظنّ أنّ التأسيس للانتماءات الثقافيّة من خلال المنابر يشكّل هاجس الشعراء أو المنابر على حدٍّ سواء، فالهويّة والانتماء من خصائص الفرد وثوابته قبل أن يكون شاعرًا، ربما للتعليم والإعلام مضمارهما القويّ في هذا الشأن ثم يأتي المنبر لتصدير ذلك فحسب دون تأثير جوهريّ له، إلّا في أمر واحد يستطيع المنبر فرضه حكمًا وهو استبداده بإقصاء من لم تتوافق هويّته وينسجم انتماؤه مع مرجعيّته السياسيّة والفكريّة.
ج…
6- النقد أيضًا في تطّورٍ ولكنّه عموديّ غالبًا منحصرٌ في الرسائل الجامعيّة والمجلّات المتخصّصة، وليس أفقيّا بما يواكب حركة الشعر الحديث وما يقدّمها في الأوساط الثقافيّة على الأقلّ.. فنجده وبخاصّة في سورية مازال في أغلبه مريدًا للشعر القديم والتجارب الكبيرة التي تمّ إشباعها بل وتختمتها بالدراسات سابقًا، فلا نجد – مع غض النظر عن الأبحاث القصيرة ومقالات المجاملات- لا نجد إلّا قليلًا من النقّاد يسبرون بجديّة التجارب الشعريّة الجديدة وبخاصّة للشعراء الشباب من الذين يغزون المشهد الشعريّ العربيّ بفتوحاتهم الشعريّة ويردّون شيئًا من البريق للشعر العربيّ بعد ما أصابه من جمودٍ وإقصاء أواخر القرن العشرين بدعم كبير من وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات الأدب الافتراضيّة وبعض المسابقات الشعريّة الضخمة عبر الفضائيّات العربيّة والمهرجانات الشعريّة المهمّة.
العدد 1201 – 13 -8-2024