الثورة – رنا بدري سلوم:
تُشبه الياسمين بحضورها، وهي التي كتبت “كلّما رآني همس لي: يخلقُ من الشّبه ياسمين”. الشاعرة ميادة مهنّا سليّمان، لم يتغلّب على قلبها الشّعور بالفقد وهي الأم الثكلى التي تشعل شموع صلواتها كل ليلة لروح ابنها يوسف، واليوم وقد خذلتها الحياة بفقدٍ جديدٍ برحيل شريك عمرها، ومع هذا لم يتركها نور الحرف بل رافقها، تماهى معها توحّد مع آلامها، نبض بانفعالاتها اشتياقها، تمرّدها الهادئ الذي اعتدنا عليه لينوّر الشعر بصرها وبصيرتها وهي التي تنثر أقوالها وتذيّلها “بميّادة الحكيمة”.
لم تستسلم الشّاعرة سليمان إلى انكسارات الحياة ولم تخفِ ابتسامتها البريئة وهي اليوم لم تعلن حداد اللون ووميض الحرف بل جعلت فساتينها الملوّنة تشرق حياة وتفيض أنوثةً ووفاءً، تهدي مقدمة مجموعتها الشّعريّة الرّابعة “قصيرٌ فستانُ صبري” إلى روح زوجها الضابط رامز سلمان سليّمان” إلى “وجهكَ الجميلِ الَّذي أراهُ في مرايا السَّماء.. إلى عينَيكَ السَّاحرَتينِ اللتينِ صارَتا بلونِ الغيمِ.. إلى روحِكَ النَّقيَّةِ الَّتِي أحبَّها اللهُ، فاصطفاها.. ليبقى لي منكَ ذكرياتٌ، ووفاءٌ، وحبٌّ لن يجفَّ نبعُهُ”.
عملت الشاعرة جاهدة أن يبصر الديوان النّور في عيد الجيش، لكن للأقدار مشيئتها ” في عيدِ الجيشِ كنتُ أرغبُ أن يصدرَ كتابيَ الجديدُ، فأهديَكَ ما كتبتُ لكَ، ورغمَ تأخُّرِ صدورهِ إلا أنَّ هديَّتَكَ على رفِّ قلبي، مغلَّفةً بورقِ حبِّي، ومزيَّنةً بشرائطِ وفائي..
كل هذا الشّوق والحنين والألم جمعته الشاعرة ميادة مهنّا سليّمان في ديوانها الصادر حديثاً والتي خصّت صحيفة الثورة نصوصاً منه وفي حديثها لنا بيّنت الشاعرة أن ما يميز قصائد المجموعة أنها ضمت ثلاثة أنواع من الشّعر الحديث، شعر حديث بقوافي لكن بموسيقا داخلية، وشعر حديث على شكل مقطوعات صغيرة يجمعها موضوع واحد، وشعر حديث على هيئة قصيدة النثر المعروفة بلا قوافي ولا أوزان فقط انزياحات خلاقة وصور محلقة في الخيال.
وعن أقسام الكتاب الذي يتألّف من ستٍّ وأربعين قصيدةً موزَّعةً في ثلاثة فصولٍ، كلّ فصلٍ “فستانًا” تقول سليمان:
الفستان الأوّل فيه ستة عشرة قصيدةً، يبتدئ بقصيدة عنوانها (لبستُ فستانًا قصيرًا)، ومن هذا القسم اخترتُ لكم قصيدة بعنوان:
إلَى سَاحِرٍ كتبت فيها:
لمْ يكُنْ شاعراً
يجدِلُ للقَصيدةِ ضفيرةً
ويُلبِسُها فسَاتينَ الأميراتْ
لكنَّهُ كانَ عاشق
يُخرِجُ مِن قُبَّعةِ قلبِهِ
أزهارًا وعصافيرَ وفراشات
لمْ يكُنْ يملكُ
مِصبَاحَ علاءِ الدِّينِ
ولا طاقِيَّةَ الإخفاء
لكنَّهُ كانَ عاشقاً
يُضيءُ ليالي الوجدِ
بقنديلِ الوعدِ
ويُخفي وجعَ القلبِ
بهمسةِ حُبٍّ ووفاءْ
أما الفستان الثّاني تشير سليمان أنها تحمل تسع قصائدَ، يبتدئ بقصيدة عنوانها (فستانُ الحبِّ الحزينُ)،
واختارت لنا قصيدة بعنوان:
أعشقُ حزنَهُ كتبت فيها:
• مُتَيَّمَةٌ بِحُسْنِهِ
أُقَبِّلُ قَصَائِدَهُ
بِشِفَاهِ قَلْبِيْ
لِذَا أُصِبْتُ
بِعَدْوَىْ حُزْنِهِ!
• عَشِقْتُ شَاعِرًا حَزِيْناً
يَصْنَعُ كُلَّ لَيْلَةٍ
مِنْ دَمْعِهِ الوَسَائِدْ
يَنَامُ هُوَ
وَأَسْهَرُ أنَا
أذْرِفُ مِنْ عَيْنِ قَلْبِيْ
أَجْمَلَ القَصَائِدْ
• يَظُنُّوْنَنَا تَوْأَماً
لَقَدْ بِتُّ
اُشْبِهُكَ كَثِيْراً
فِيْ مَلَامِحِ
الحُزْنِ!
• كَانَتْ خِزَاَنَةُ رُوْحِيْ
مُزَيَّنَةً بِأَثْوَابِ الفَرَحِ
مُذْ أَحْبَبْتُهُ
خَاطَ لِيْ ثَوْبَ حُزْنٍ
عَلَىْ مَقَاسِ قَلْبِيْ
أما الفستان الثّالث يضم إحدى وعشرين قصيدةً.
يبتدئ بقصيدة عنوانها (قصيرٌ فستانُ صبري) من قصائد هذا القسم قصيدة بعنوان:
تَبًّا لِرَبطَاتِ عُنُقِكَ تخاطب فيها حبها الأنيق:
أنيقٌ حُبُّكَ
بَاذخُ اللهفةِ
يَسكُبُ عطرَ الأُمنِياتِ
عَلى عُنُقِ الوَجْدِ
فيُغري أنُوثَتِي
جَميلٌ أنتَ..
مَا بَالُ المَرَايا
تُهَشِّمُ بَرِيقَها
كَي تَنسَى كُلَّ عَابرِ خَيالٍ
مرَّ عَلى دَربِ ذَاكِرَتِها؟
وتُبقِيكَ..
تُبقِيكَ أنتَ
فِي نَبضِ لُجَينِها
آهٍ مِن وَسامتِكَ!
آهٍ مِن صَوتِكَ!
آهٍ مِن تَسريحةِ شَعرِكَ!
وتَبًّا لِربْطاتِ عُنُقِكَ!
كمْ تخنُقُ قلبيَ الصَّغيرَ
حِينَ لا يَستَطيعُ
أنْ يصرُخَ إلَيكَ:
“أُحِبُّكَ”
بِأعلَى صَوتِ الاشتِياقِ.
تختم الشاعرة ميّادة مهنّا سليمان بالقول إن مجموعتي النثريّة (قصيرٌ فستانُ صبري) صدرت في مئةٍ وإحدى وأربعينَ صفحةً من القَطع المتوسّط، عن دار المتن في بغداد، الغلاف من رسم الفنّان السّوريّ هيثم ديواني، والمقدّمة النّقديّة للنّاقد المصريّ عبد الله السمط، أما الإضاءة النّقديّة فكانت للنّاقد العراقيّ المغترب الدّكتور محمّد رضا شيّاع، وكأن الشاعرة تفخر أن تنثر ياسمينها الدمشّقي على كل عربي يجيدُ لغة الضاد.
هكذا اعتدنا على الشاعرة ميّادة مهنّا سليمان أن تكون مختلفة، صيّادة النّور، ابنة بارّة باللغة العربيّة وكيف لا وهي خريجة كليّتها، تعرف دهاليزها تتقن مفرداتها وأفعالها وتحترم قواعدها، شاعرةٌ تكتبُ حرفاً لا تغفل َعن تشكيله، فتجيد سحرنا بلغتها وتترك أثراً ودهشة وجماليّة تعابيرها في ذواتنا.