الملحق الثقافي-عبد الحميد غانم:
لم يكن عبد الوهاب المسيري من المفكرين الجالسين في الأعالي، بل كان يؤمن بأن «المثقف الذي لا يترجم فكره إلى أفعال لا يستحق أن يطلق عليه هذا اللقب بين بنى مجتمعه»، فهو الذي رفع شعار «المقاومة تبدأ بالمعرفة»، ورغم أنه بدأ حياته السياسية منتميًا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» لفترة قصيرة إلا أنه تركها وانتقل إلى اليسار بعد أن وجد تعارضاً بين معتقداته وبين منهجها، فانضم إلى الحزب الشيوعي، وهو صاحب الجملة الشهيرة: «أنا ماركسي على سُنة الله ورسوله»؛ إنه السياسي الجماهيري والمفكر الموسوعي الراحل «عبد الوهاب المسيري»، الذى اتفق الجميع على وطنيته، فترك خلفه آراء وأفكاراً ومعارك ومؤلفات جعلت منه واحداً من أهم مثقفي ومفكري الأمة العربية.
مشروعه الفكري
كان بحق صاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بتعدد أبعاد مشروع التأصيل الحضاري في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع، ما جعله يؤسس مشروعاً فكريّاً تجديديّاً منهجيّاً له امتدادات إيمانية وإنسانية وعروبية باقتدار، بما يمتلكه من أدوات وآليات صياغة وصقل جوانب أساسية في الهوية العربية.
يعتقد «عبد الوهاب المسيري» من خلال تحليله لبنية الإنسان وتركيبته الفيزيولوجية أنه لا يعبر عن جانب واحد من قدراته الذهنية والبدنية من خلال الوسط الإجتماعي، ولا يخفى علينا الجانب السر الذي هو جوهر الإنسان حسب المفكر العربي «عبد الوهاب المسيري» حيث إن الروح لا تفنى مثل ما هو حاصل مع الجسد الذي يشكل المادة.
نشأته
ولد «المسيري» في تشرين الأول /أكتوبر 1938 بمدينة «دمنهور» مسقط رأسه بمحافظة البحيرة وتلقى تعليمه الأولى فيها حتى المرحلة الثانوية، ونشأ في أسرة ريفية ثرية، وكان والده من رجال الأعمال، ولكنه كان حريصاً على تنشئة أولاده على الاعتماد على الذات.
ويذكر الدكتور «المسيري» أن هذه النشأة جعلته باحثاً مثابراً. لا ينسى أنه من أبناء البرجوازية الريفية ينشؤون في خشونة، خلافاً لأبناء البرجوازية الحضرية.
الاعتماد على الذات كان عاملاً مهماً في وضعه الاقتصادي، إذ يقول المسيري: «كان والدي يردد أن لا علاقة لنا بثروته، زادت أم نقصت، وأن علينا أن نعيش في مستوى أولاد الموظفين. كنت أشكو من هذا آنذاك، لكنني تعلمت، فيما بعد، عندما ازددت حكمة، أنه نفعنا كثيرا بذلك».
الأعمال الموسوعية
عرف المفكر وعالم الاجتماع العربي المصري «عبد الوهاب المسيري» بمؤلفه «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»، والذي كان أحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين، ومكن من خلاله الكثير لإلقاء نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية للظاهرة اليهودية بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من تطوير مفهوم النماذج التفسيرية، والتي تهدف إلى وجود دراسة ورؤية تاريخية واضحة، تقوم على أسس علمية سليمة وصحيحة ومحايدة لمعرفة التاريخ اليهودي بشتى أنحاء العالم في إطار التاريخ الإنساني، واعتبرها البعض «العمل الأول الذي حاول دراسة تاريخ اليهود وثقافتهم بشكل محايد».
يرى المسيري أن الظاهرة الصهيونية تمثل امتداداً للمنظومة الغربية الإمبريالية كما يؤكد المسيري، إذ لا يمكن فهم الصهيونية بعيداً عن المنظومة الغربية، ولا يعني ذلك إغفال السرديات الدينية التي يتم تقديمها مسوغاً لبناء الدولة وشرعنتها.
كما صدرت له عشرات الدراسات والمقالات عن الحركة الصهيونية.
رحل عن عالمنا يوم 3 تموز /يوليو 2008.
العدد 1202 – 27 -8-2024