الملحق الثقافي-علم عبد اللطيف:
الكتابة تفكير.. نفكر بالكتابة..
تفكير الكتابة يختلف عن التفكير الشفوي.. ولا غرابة في أن الفكر تطور بما لا يقاس بعد مرحلة التدوين والكتابة في العالم كله عما كان عليه في المراحل الشفاهية.
آلية وسمة العصر. لغات متعددة ضمن اللغة الواحدة، نفكر بلغاتنا هذه بمستويات مختلفة، نكتب النص النثري التقريري، الصحفي مثلاً..وهو أصعب وأدق أنواع الكتابة، المسؤولية فيه قائمة لجهة مصداقيته أولاً، وتالياً للمهمة المحددة التي يقوم بها وغالباً هو خطاب يتضمن معطىً جاهزاً، لا يتضمن دلالات متعددة، بخلاف الشعر الذي يبتعد عن التقريرية، يحلّق في مجازٍ لغوي وعقلي مبتكر ومرمّز.
عن الشعر تحديداً، معظم مايكتب في هذا الفضاء الأزرق هو شعر، أو يقصد كاتبُه به الشعر، سواءً حقّق المطلوب أم أخفق. بلغته وأدواته الشعرية..أم بقواعد اللغة والإملاء.
الشعر كما أرى هو أسهل أنواع الكتابة بسبب عدم مسؤوليته عن مصداقية مطلوبة من النثر، للمجاز والخيال دوره هنا في قيادة المتلقي إلى متاهاته التي لا يرحم فيها القارئ، ولا يهمه وصول معناه، إذا كان هناك معنى بالفعل، فنتعثّر بجُملٍ تائهة أحياناً كثيرة، لا تتعرف على بعضها في نص صغير.
عموماً، الشعر في المنثور والموزون، هو كمية المشاعر بأدوات ترميز لغوية، الناظم هو الموهبة والشاعرية الفطرية، وتبقى الصنعة في الموزون مهمة إضافية لا يتحمل عبئها المنثور، صنعة تتطلب وقتًا طويلاً وتجريباً مستمراً، ولكل من النوعين طلابه، الموسيقا ما تزال مطلباً، والشكل المتناظر الدقيق والمرسوم بحرفنة أيضاً يلبي أذواق كثيرين، وينصرف عن هذا من لا يتقن الصنعة أو لا يهمه بالأصل إتقانها باعتبارها صنعة بائدة أصبحت للمتاحف.
الآن.. نكتب الشعر عموماً لأننا نحب الكتابة وقد لا نتقن غيرها، لا نستطيع كتابة غير الشعر لسببين، أولاً هو طريقةٌ سهلة للوصول إلى قارئ، فالمساحة المتاحة في هذا الفضاء المفتوح للجميع تناسب هكذا كتابات ونرى بالفعل أن أجناساً من الكتابة قد تراجعت وغابت لهذا السبب، منها القصة القصيرة التي لا يناسب حجمها في عموم الحالات عادةَ التصفح التي يقوم بها قارئ صفحات النت، فكيف بالبحث الطويل الذي يستلزم وقتاً أكبر مما يريده المتصفح حسن النية والطوية.
الشعر..هذا المتسيّد الجميل.. يسحبنا نحوه كمن يقول.. ليس لكم غيري.. وأساساً لا تستطيعون مقاربة سواي.. هل يمكنكم قول كل شيء بصراحة وصدق ودقة؟..أنا الوحيد الذي يزعم توصيل ما تريدون قوله دون مساءلة وخوف.. ودون أن أحمل معنى خاصاً ودقيقاً..لكل قارئ أن يبحث عن معناه هو..ولابأس.. فهذا شأن الأعمال الفنية العظيمة في التاريخ.. أيضًا أنا الذي أدّعي طغياني على الخاطرة.. وحتى القصة القصيرة وكل الكتابات الجادة والمطولة.. أحيلكم إلى حجم التفاعل الضئيل مع الكتّاب والنقاد الكبار.. الذين يتعبون في تقديم أفكارهم وتحليلاتهم.. وأحيلكم أيضًا إلى مثقفين صاروا يكتبون الآن العتابا.
أنا الذي أفترض احتكاري لأدواتكم.. رافعةً لكل كتاباتكم.. قد أرحتكم بالفعل من كل مسؤولية معرفية أو سياسية.. هل سمعتم بشاعر في السجن؟ أرجو ألا يحتج أحد بشعراء أمثال لوركا ونيرودا وناظم حكمت.. هؤلاء حملوا الثورة إلى الشعر.. وهذا لتلك..فسُجنوا وعُذبوا وقتلوا بسبب ثورتهم.. وليس بسبب الشعر.
بقيت ألبّي نزعة الفضول لديكم بالظهور ككتّاب.. وجعلت من هواة ومبتدئين.. نجومَ كتابة وشعراء.. أقوم بمهمة تنفيس الضغوط لديكم.. وأجمع حولكم معجبين يباركون إبداعاتكم فيّ.. في فضاءٍ لا يتيح لكم سواي.. حتى لأصدقائكم وأحبائكم في رسائل مشفرة وحقيقة.. أنتم منقادون إلي..لأن فضاء الكتابة.. غير متاح لسواي من أجناس كتابية تودي إلى مزالق ومهالك.
نقول.. أيها الشعر.. لك شكرنا..وعتبنا.. ولك تسليمنا بأننا منقادون إليك طواعية أو كرهاً..
فإلى أين ستوصلنا؟..
وهل سنستغني عنك يوماً بابتعادك عن مقاصد الكتابة الجادة.
العدد 1203 –3 -9 -2024