الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
الكتابة عن شاعرٍ كبير بحجم عبد الكريم الناعم، ليست مهمّة سهلة، بل تحتاج إلى مجلدات، ولا يمكن الإحاطة بإبداعه الغنيّ والمنوّع في مختلف ميادين الأدب من شعر ونقد ومقالات سياسة وفكرية وزوايا صحفية وسيرة ذاتية و…
عبد الكريم الناعم شاعرٌ متفرّدٌ يجمع في إبداعه بين الأصالة والمعاصرة، إبداعه الثر والذي يشكّل مسيرة حياته والتي تقارب تسعة عقود ومازال كالنبع المتدفق، يكتب ويكتب، يقدّم خلاصة تجربته شعراً عذباً وزوايا صحفيّة ترصد هموم الناس والمجتمع والوطن.
ما زال الناعم يطلّ على قرّائه من خلال زاوية (حديث الصباح) في جريدة البعث الإلكترونية وجريدة العروبة في حمص والتي يطرح فيهما قضايا وطنية وقومية وإنسانية، قضايا أدبية واجتماعية وتربوية و… إضافة إلى قضايا الفقراء والبسطاء والمقهورين والكادحين، الذين لا تستقيم الحياة ويصبح لها معنى إلّا بوجودهم، إلى جانب قضايا وجدانية تحضّ على التأمل والتفكير بمختلف مناحي الحياة.
والمتتبع لمسيرة الشاعر الإبداعية الطويلة، يجد أنه دائم العطاء، ثرّ البوح، لا يتوقف عند نوع محدد من الكتابة، صحيح أن الشعر هاجسه، ويجد نفسه فيه، لكنه كتبَ في النقد والدراسات والسرد إضافة للشعر باللهجة البدوية، وأبدع ونوّع في المقالة والزاوية الصحفية.
منذ إصدار ديوانه الأول (زهرة النّار) عام ١٩٦٥ وحتى اليوم لم يتوقف قلمه ونبض كلماته، دواوينه تربو على الثلاثين إضافة إلى الدراسات النقدية والتي جاءت لتكمل وتنوّع في مسيرته الإبداعية ومما زادها حضوراً وألقاً ما ينشره من شعر ومقالات وزوايا على صفحته على الفيس بوك والتي تُشكل قيمة مضافة لما أنجزه الشاعر خلال مسيرته الطويلة من الكتابة والإبداع.
يكتب الشاعر بلغة شفيفة حانية، يقدّم عبر قصائده مسحات لا تنتهي من الجمال والبعد الإنساني الراقي، تعابيره مختزلة وألفاظه مسبوكة بحِرفيّة عالية، وفي كلّ ماكتب نراه العاشق، الثائر، المحب لوطنه وأرضه وناسه..
لنقرأ في قصيدة (وَشْم) :
(آنّ اللّوْزُ تَفَتَّحَ
وازْدَحَمَتْ في القلبِ عصافيرُ الكُمَّثْرى
واشْتًبًكًتْ أغصانُ التّوتْ
وَشَمَتْهُ الغجريّةُ فارِعةُ الطّولِ السّمراءُ
على ساعِدِهِ الأيْسرِ باسمِ حروفٍ لاتَعرفُها
وَ…مَضَتْ..
تَحْمِلُ في صُرَّتِها شيئاً
مِن لُغْزِ المَلكوتْ
إنَ تَباعَدَتِ الشُّطْآنُ
وقامتْ جُزُرٌ من أعماقِ الماءِ
وَاَقْفَلتِ الميناءُ بَرازِخَها..
أَحْضَرَ ماءَ الفضّةِ
حتّى يمْحو ذاكَ الاسْمْ
فَاحْتَرقَ الاسْمُ
وَظَلَّ الوَشْمْ)
محطات هامة ومنوعة أضافت للشاعر غنى ً في التجربة الشعرية والأدبية، فمن عمله كمعلم، إلى الصحافة والإذاعة واتحاد الكتاب العرب في مدينته حمص جعلت منه موسوعة ثقافية تضج بالحيوية والإبداع، وبالرغم من اقترابه من التسعين (مواليد ١٩٣٥) فما زال يعطي وينثر عبق قصائده ومقالاته وآرائه في مختلف القضايا على صفحته على الفيس بوك، وهذا يجعلنا نؤكد أنّ الكتابة لا تتوقف عند سن معين، والمبدع الحقيقي يظل في حالة حراك فكري وثقافي مادام قلبه ينبض بالحياة.
وبالرغم من أن الشاعر الناعم عاش في المدينة (حمص) لكن مفردات القرية ببساطتها ودفئها تحضر بقوة في أكثر من قصيدة ومقالة وهذا يؤكد ارتباط الشاعر بالمكان الذي ولد فيه ونهل من مائه، وكحّل عينيه بحقول القمح وأشجار الكرمة والتين والزعتر والشيح والقندريس، وهذا ما نلحظه في قصيدة
( بنكهة الزعتر) :
( يا نكهة الزعتر البري في الجبل
أيقظت في تربتي كوناً من الشعل
أوقدت في يابس الأغصان برعمها
فشع في ناظري ما مات من أمل)
وفي العقدين الأخيرين يغلب على شعر الناعم الصوفية والتأمل في مجريات الكون وله رأي في ذلك حيث يقول :
(الصوفية في الشعر، والصوفية هنا بمعنى التأمل الكوني وتذوقه، وهذا يتجلى واضحاً في مجموعتي الشعرية (مائدة الفحم)
وفي الحرب الكونية التي شُنت على سورية ظل الشاعر وفياً لوطنه ومدينته حمص، لم يتوقف يوماً عن الكتابة في صحيفة العروبة رغم كل الإرهاب الذي طال المدينة وترك أثره الحزين على البشر والشجر والحجر، وكان إيمانه مطلقاً بحتمية اندحار الإرهاب وانتصار الحق، انتصار سورية الوطن والإنسان، وهذا ما عبّر عنه في كلمته في حفل تكريمه في المركز الثقافي في
حمص 12/10/ 2017. (بداية أحمد الله أنني عشت حتى رأيت مؤامرة الخراب والتدمير، وهي تولي ظهرها مقهورة مندحرة، وكم تضرعت إلى الله في سرِّي، أن يمد في أجلي حتى أرى هذا الانكفاء).
لقد صور الشاعر ما جرى في مدينة حمص من قتل وتفجيرات طالت المدارس والأحياء الشعبية فكانت كلماته أكثر تعبيراً عن حجم الخراب والدمار والحزن :
( أَحْسَنْتْ
عائلةُ .. عَشْرٌ،
عُجِنتْ بالرّملِ الحارقِ،
بالبارودِ
وبالإسٍمنْتْ
في زاويةِ الرّدْمِ اليُسرى
غُصْنٌ
يُمسكُ خَُضْرتَهُ
في الزّاويةِ اليُمنى
طفْلٌ في العاشرة
الْحِقْدُ نَضارتُهُ
قربَ الطّفلِ الدّفترُ
مكتوبٌ فيه
« أَحْسَنْتْ»)
لقد كُتب الكثير عن تجربة وإبداع الشاعر عبد الكريم الناعم سواء محلياً أو عربياً، وكانت تجربته الشعرية موضع دراسات لطلبة الجامعات لنيل شهادات الماجستير، ومهما كُتب وقيل عنه فهو لا يفيه حقه، هو قامة أدبيّة رائدة ترك بصماته الإبداعية في مجمل ما كتبه والذي يشكل إرثاً ثقافياً وفكرياً لهذا الجيل والأجيال القادمة.
أمدّ الله في عمرأديبنا الكبير عبد الكريم الناعم، ومنحه الصحة والعافية كي يبقى منارة في الفكر والثقافة والأدب.
بعض القصائد من صفحة الشاعر عبد الكريم الناعم.
العدد 1203 –3 -9 -2024