الثورة-هفاف ميهوب:
محاضرٌ هزيلٌ، أشيب الشّعر، يجلس أمام طاولة استقرّ فوقها كوب ماء، ويستعدُّ لإلقاءِ محاضرة.. يقلّب الأوراق التي بين يديه، بحثاً عن محاضرته التي لا يجدها، ربما ضيّعها، وربّما لم يُحضرها قصداً.. يعتذر للحضور، ويقول لهم بأنه سيُلقيها ارتجالياً، حتى وإن غفل أو نسي، شيئاً من تفاصيلها.
مقدّمة، تمهّد لما تناوله الروائي والقاص المكسيكي «خوان بيورو» في «محاضرة عن المطر».. الرواية التي يشير فيها، إلى أنه لن يتناول في محاضرته هذه «مطر الأفكار» أو «العصف الذهني»، وإنما «المياه التي جرت في مخيّلة الشعراء، حيث يبدّل الشّاعر الطقس»، الأمر الذي يجعل المطر في محاضرته ينهمر، فيستدعي قول الشاعر الإيطالي»دانتي»: «ينهمر المطر في الخيالِ السّامي».
يقدّم بهذا، ثم ينتقل للحديث عن حياته وذكرياته وتأملاته، عن الوقتِ الذي عاشه، أو لم يعشه، وتمنّى لو عاشه.. عن عشقهِ واهتمامه بالكتب، ومعرفته بطريقة ترتيبها، وعن العلاقة التي جمعتهما وأشعره مطر كلماتها، بأن قدرهُ أن يعيش أبد عمره مبلّلاً بها.
إنها الحياة التي اعتاد على مطرِ ذاكرتها، وبوح كلماتها، وفضاءات عوالمها الشاسعة والخيالية.. الحياة التي يخشى أن يُستغنى عن مهمته فيها، فتجفّ ذاكرته الغزيرة بالمعرفة، ويفقد قدرته على الاستمرار في جعل الناس تتآلف وتتواصل وتتحاور، عن طريق الكتب التي قال عنها وعن فائدتها، وتحديداً الكتب الورقية:
«الكتب الورقية، ترغم الناس على التواصل، إذا انتقلت من يدٍ إلى يدٍ، وما دامت حاجة العثور عن يدٍ أخرى قائمة، فالكتب باقية، وأهم ما في الكتب، الأيدي التي تقدّمها..».
إنها علاقة أشبهُ بالعشق، واللقاءات الساحرة.. عشق الكتبِ الذي انحنى ظهره، بعد أن قضى عمره منكبّاً على قراءتها وترتيبها، وسحر اللقاءاتِ مع الحبيبة الممطرة..
الحبيبة التي هي المكتبة التي يعمل بها، والتي يدفعه التفكير بفقدانها للبكاءِ، وللشعور بما شعر به «إليسيو دييغو».. الشاعر الكوبي الذي عبّر عن هذا الشعور بالقول: «وكأن دموع الآخر تنسابُ على وجهي».
هذا ما أراد «بيورو» قوله، بل قاله فعلاً، وفي هذه الرواية التي كانت كلماته فيها، مباشرة ورشيقة في تنقّلها ما بين الواقع والخيال، بلّ ونديّة في سعيها لإغراق القارئ مثلما الكاتب، بالنصوصِ والحكايا والصور التي جعلته يرى: «العالم القائم على قيدِ الوجود، لا يصير موجوداً حتى يصيرُ كتاباً».
باختصار: الرواية بوحٌ بأسلوبٍ قصصي، وعن الكتب والمكتبة والأدب والحبّ.. قصصٌ لا يعنينا أن نذكرها كلّها، رغم مسحاتِ ألمها.. لا يعنينا إلا علاقتها بالمطرِ والشّعر، بل بالقارئ الذي لا بدّ أن يشعر لدى قراءتها، بأنه قد أُغرق بها ويحتاج لإغراق نفسه أكثر وأكثر.. بالكتب الورقية وعطر كلماتها، بل ومطر خيالها الذي يهبهُ حياة، غير مكرّرة ولا يمكن أن تتكرّر..