الثورة – حسين روماني:
سنوات قريبة مضت كانت فيها الشاشات السورية غارقة في نقاشات بشأن مشاهد الجرأة، حتى بدا الجسد الأنثوي مركز الاهتمام، لكن خلف هذا الضجيج، يظهر غياب أكبر أثراً، صورة المرأة المثقفة التي تحمل كتاباً وترتدي نظارة، المرأة التي تصوغ خطاباً وتؤثر في وعي المجتمع، هذا الغياب لا يعكس الواقع السوري الغني بأسماء نسائية بارزة في الأدب والفكر، بل يعكس أزمة خيال درامي يعجز عن تحويل المثقفة إلى بطلة قادرة على قيادة السرد.
إلى المرأة الظلال
المتابع للمسلسلات السورية يلحظ كيف حوصرت البطلات في أدوار مكررة كما حصل في “صرخة روح”، الحبيبة الخائنة، الزوجة المقهورة، أو الأم المستنزفة، حتى حين تُقدَّم امرأة كإعلامية أو صحافية، فإن الحكاية تعيدها بسرعة إلى أزماتها العاطفية، وتنتزع منها دورها المفكر أو المؤثر، النتيجة أن صورة المثقفة تكاد تختفي تماماً، وكأن المجتمع السوري يخلو من نساء قادرات على التفكير والتأثير، وهو أمر يناقض الواقع ويُفرغ الشاشة من بعدها الثقافي.
من النادر أن نجد عملاً درامياً سورياً يضع المرأة المثقفة في قلب الحكاية، مسلسل “قلم حمرة” “2014” قدّم هذا الاستثناء، عبر شخصية ورد، كاتبة نصوص سينمائية تعيش تجربة الاعتقال وما يرافقها من أسئلة وجودية وسياسية، ورد لم تكن مجرد امرأة عاشقة أو ضحية، بل مثقفة تواجه القمع والاغتراب وتعيد طرح معنى الكتابة في زمن الحرب، نجاح المسلسل أظهر أن الجمهور قادر على التفاعل مع شخصية عميقة فكرياً، لكن التجربة بقيت معزولة، ولم تتحول إلى تيار عام داخل الدراما السورية.
دراما بلا ذاكرة ثقافية
على الضفة الأخرى، رسخ مسلسل “الفصول الأربعة” في الذاكرة الشعبية بوصفه دراما إنسانية متماسكة، لكنه اكتفى بتقديم شخصية مثقفة هامشية مثل “نادية”، طالبة علم النفس، من دون أن يمنحها وزناً بطولياً، أما “ضبو الشناتي” “الحقائب” فركز على الهجرة واليوميات العائلية بروح ساخرة، لكنه أعاد إنتاج صورة المرأة التقليدية البعيدة عن أي دور ثقافي أو فكري، هذه الأمثلة تكشف أن الدراما السورية لم توثق بعد نساء لعبن أدواراً كبرى في المشهد الثقافي، من غادة السمان إلى كوليت خوري، وكأن هذه النماذج خارج الخيال البصري.
يلجأ منتجون وكُتّاب إلى تبرير التهميش بالقول: إن الجمهور لا يتفاعل مع المثقفة، وإن السوق يفرض قصصاً عاطفية سهلة، لكن هذا التبرير ينهار أمام نجاح “قلم حمرة”، إذ أثبت أن المشاهد السوري يبحث عن الصدق والعمق، لا عن النمطية.
الحقيقة أن الأزمة تكمن في كسل إبداعي يخشى المغامرة، وفي صناعة تفضّل الربح السريع على الاستثمار في شخصيات نوعية تعكس الواقع الثقافي.
استعادة المرأة القائدة
المجتمع السوري لا يفتقر إلى نماذج نسائية مثقفة، بل يفتقر إلى خيال درامي يجرؤ على تحويل هذه النماذج إلى بطلات، استعادة صورة المرأة التي تحمل كتاباً وترتدي نظارة ليست مجرد ترف جمالي، بل هي فعل يعيد للدراما صدقيتها، ويمنح الأجيال الجديدة مرجعيات مختلفة عن الصورة الاستهلاكية للأنثى.
النقاش حول الجرأة لم يعد مهماً بقدر النقاش حول الغياب الثقافي، السؤال المطروح اليوم: متى تعود المثقفة السورية إلى الشاشة كبطلة تقود السرد وتترك أثراً في الوعي الجمعي؟ حين يحدث ذلك، تستطيع الدراما أن تقول إنها عكست المجتمع فعلاً، لا مجرد ظله المشوَّه.