الثورة – سعاد زاهر:
في المشهد الأخير في فيلم “آخر الناجين” Last Survivors حين يضطر الابن إلى إطلاق رصاصة النجاة على والده، لا تبدو قاتلة، بقدر ما تبدو أنه ينقذه من أوهامه، تلك الأوهام التي جعلت والد جايك يأخذه إلى منطقة نائية هارباً من العالم الخطر.
يبدو هذا الفيلم مميزاً في زمنٍ باتت فيه الأفلام المستقلة أكثر جرأة على طرق الأسئلة الوجودية، يأتي ليضعنا أمام مرآة الإنسان حين يتحوّل الخوف إلى عقيدة، والحماية إلى سجن مغلق على الروح. ليس مجرد فيلم عن نهاية العالم كما يوحي عنوانه، بل حكاية عن النهاية الخاصة التي يخلقها الأب لابنه، فيغدو العالم المزعوم خراباً من الداخل لا من الخارج، إنه فيلم عن وهم النجاة، كيف يمكن لإنسان أن يخترع نهاية للعالم ليبرّر امتلاكه لعالم صغير خاص به.
يبدأ الفيلم من غابة نائية حيث يعيش الأب “تروي” مع ابنه “جيك” منذ عقدين كاملين، كل ما يعرفه الابن أن الكارثة دمّرت الحضارة وأن أي محاولة للخروج من حدود الغابة تعني الموت أو الأسر، لكن حادثة بسيطة، إصابة الأب وحاجة الابن للدواء تفتح باب الشك.حين يلتقي جيك بـ هنرييتا، يكتشف عالماً لم ينتهِ بعد، بل إن كل ما سمعه من أبيه مجرد بناء أسطوري للسيطرة عليه.
الفيلم يطرح سؤالاً.. هل الخوف على الآخر يبرّر عزله عن العالم؟.. الناجي الأخير يقول العكس، الحماية المفرطة تتحول إلى قيد، والنجاة من الخارج لا تعني شيئاً إن كان الداخل مسجوناً. هنا تلتقي رمزية الفيلم مع واقع معاصر، مجتمعات أو عائلات تُغلق على أبنائها، وتزرع فيهم وهم الانهيار، كي تبرّر بقاءهم داخل دائرة ضيقة.
لعل أهم ما في الفيلم حالة الأداء تلك التي جسدها تروي “Stephen Moyer” يمثل السلطة الأبوية حين تتحول من حماية إلى تملك، شخصيته ليست مجرد أب خائف، بل رجل مهووس بالسيطرة، يخلق أسطورة الخراب كي يضمن بقاء ابنه إلى جانبه.الابن جيك “Drew Van Acker” شاب عاش حياته على “حافة الخوف”. يرمز لمرحلة الوعي حين يبدأ الإنسان بمساءلة ما تربّى عليه.هنرييتا “Alicia Silverstone” لحظة الانفتاح على الآخر، النافذة التي تكشف للابن أن الحياة أكبر من جدران الخوف.هذا التوازن بين الشخصيات الثلاث يعكس مثلثاً درامياً متماسكاً، الأب كسلطة، الابن كرهان، والمرأة كأفق جديد.
الإخراج ابتعد عن الإبهار البصري المعتاد في أفلام ما بعد الكارثة، ليركز على البساطة المشهدية، الغابة فضاء خانق، الأكواخ مظلمة، حتى الإضاءة تبدو محكومة لتخدم فكرة السجن. هذه الخيارات الجمالية عزّزت من ثيمة العزلة.لكن بعض النقاد وجدوا أن إيقاع الفيلم يتعثر أحيانًا، وأن التصعيد الدرامي كان يمكن أن يكون أكثر توتّراً. ومع ذلك، فإن مشاهد المواجهة الأخيرة بين الابن والأب تبقى من أكثر اللحظات قوة، لأنها تكشف الصراع العاطفي المختبئ خلف القسوة.
الفيلم ليس مجرد فيلم إثارة أو بقاء، بل نص سينمائي عن العلاقة بين السلطة والحرية، وعن الخوف حين يتحول إلى أداة حكم، في زمن الأزمات، يبدو الفيلم وكأنه يذكّرنا،أخطر انهيار ليس ما يحدث للعالم، بل ما نصنعه نحن حين نحجب الحقيقة ونزرع الوهم في قلوب من نحب.