الثورة- هفاف ميهوب:
«كانت الطباعة نعمة عظيمة للمؤلفين، فقد منحت الذين جعلوا من الكتابة مصدر عيشهم، طريقاً للوصول إلى قاعدةٍ كبيرة من القُرّاء، دون تكلفة عالية.. اليومُ باستطاعةِ أيّ شخصٍ أن يصبح مؤلّفاً، وأن يجد له قُرّاء عبر منصّات التواصل الاجتماعي، دون ابتكاراتٍ وليدة عقولٍ مستقلّة، تبدعُ قصصاً جديدة».
كلماتٌ من «العالم المكتوب».. الكتابُ الذي تناول فيه الباحث والناقد الأميركي «مارتن بوكنر»، دور الورق والطباعة في انتشار المعرفة في كلّ بقاع العالم، مثلما دور الكتابة في نهوضِ وسقوط الإمبراطوريات والأمم، واندلاع شرارة الأفكار الفلسفية والسياسية، وولادة المعتقدات الدينية. تناول ذلك من خلال توقّفه لدى ستّة عشر عملاً من الأدب العالمي التأسيسي، بدءاً من الملاحم الكلاسيكية القديمة، وصولاً إلى الآداب الحديثة التي ساهمت بشكلٍ كبير، في تشكيلِ الهويات وبناء التاريخ والحضارات، مثلما في إعادة صياغة وتوجيه النفس البشرية.
يقدّم «بوكنر» أمثلة، يشير من خلالها إلى أن ما ميّز أدب الملاحم، قدرته على نسجِ أعظم الأساطير وأشهرها:
«الإلياذة» وقصّة انجذاب «الاسكندر» إليها، وإلى الدرجة التي لم يُعرف فيها، وعلى مدى فتوحاته، بأنه آوى يوماً إلى مضجعه، دون أن يطّلع عليها، فقد كانت تلازمه حتى في حروبه وغزواته، ولم يكن ذلك لشعوره بالمتعة لدى قراءتها فقط، بل ولأنه أراد تجسيدها في حياته وواقعه.
يشير أيضاً، إلى عظمة «الأوديسة» التي تعتبر تتمّة للـ «الإلياذة» التي جعلته يظنّ، وبعد قراءته لقصة صمود «طروادة» أمام حصارٍ استمرّ لعشرة أعوام، بأن حصنها ضخمٌ جداً ومنيعٌ، لا صغير وهزيلٌ كما هو في الحقيقة.
إنها «قوة الكتابة»، هكذا أسماها بعد أن استكشف، وعلى مدى تنقلاته في كلّ أنحاء العالم، كيف حفظ الأدب التأسيسي بكلّ فنونه وأنواعه إرث وآثار وملاحم ونصوص حضاراتٍ، عُرف فيها أيضاً «أدب المعلّمين». الأدب الذي جعل «بوذا» و»كونفوشيوس» و»سقراط» وغيرهم من حكماء العالم، عبارة عن مدرسة ثقافية ومعرفية وفلسفية، لعبت أسمى وأعظم الأثر، في التقاءِ وحوارِ الثقافات.
لا ينسى «فوكنر» أيضاً، تأثير قصص «ألف ليلة وليلة» على العالم بأجمعه، بل وعلى حياته وذاكرته الأدبية. تلك القصص التي يقول عن براعتها في محاكاة الناس وتوجيههم، وتشكيل هويّتهم وذاكرتهم: «حكايات هذا الكتاب كأنّها جنّي، تبدّل أشكالها وتتستّر وراء وجوهٍ عديدة. لقد برعت شهرزاد في ابتكارِ مشاهدٍ مختلفة عما نراه أمام أعيننا، وفي خلقِ عالمٍ من كلمات».
كلّ ذلك وسواه، من أشهر الملاحم والنصوص والآدابِ والمسرحيات التأسيسية الأدبية، تناوله «فوكنر» في «العالم المكتوب» الذي قال عمّا قدّمته له الكتابة، التي هي أعظم ثمرةٍ فيه:»إخبار القراءِ بأحداثِ الماضي، وتداول القصص على ألسنةِ الرواةِ، يُحييها في الحاضر، لكنّ حفظ الماضي بالكتابة يخلّده، فالكتابة هي التي تصنع العالم والحضارات والتاريخ..».
قال ذلك، بعد تجواله في العالم وقراءاته وبحثه، وصولاً إلى التقنياتِ التي استشعرها، تقضي على الكتابة والإبداع والابتكار، وتجعل أهم الدروس التي تعلمّناها من «العالم المكتوب»: «أهم درسٍ تعلمناه من تاريخ الأدب، هو أن الضمان الوحيد لنجاةِ النصوص، استعمالها المستمرّ، فالنصّ يحتاج أن يكون مرتبطاً بثقافةِ الناس، بترجمته وتدوينهِ وقراءته من جيلٍ إلى جيل، كي لا يتخبّط في محيطِ النسيان.. إن التعليم والثقافة هما ما يضمنان مستقبلِ الآداب، وليس تطوّر التقنيات».