متعة أدب الرحلات تأتي من تماهينا مع حكايات الرحالة، فحين تلفحهم حرارة الجو نشعر بوهجها، وحين يتسلقون الجبال كأننا فعلنا، وحين يمرحون قرب البحر.. نعيش معه مشاهد رحلاتهم كما لو أننا في فيلم مغامر يبعد عنا شبح الروتين، تقلبات الرحلة تعيد إلينا روح تتوق للتجديد، وحين نقلدهم في ترحالهم نكتشف ونفهم ما وصلوا إليه من لذة المغامرة.
كل تفصيل تحياه وأنت على دروب الترحال يبدو في غاية الأهمية كي تتمكن من صياغة حكايات تكبر في الذهن، لتصبح البطولة للأمكنة لا الحدث، فتفاصيل الحياة اليومية في السفر حتى لو كان مجرد خروج للتريض الصباحي له إحساس خاص، لو عشته في أمكنتك الاعتيادية ربما لا يعني لك شيئاً.
في الرحلات لا تحتاج للخيال، تنتقل من مكان إلى آخر، تعتنق اللحظة غير آبه بأبعاد سابقة أو مستقبلية، تشعر كأنك تخلصت من كل ما علق بك، وها أنت تخطو نحو ثقافات وعوالم تبعد عنك كل قناعاتك التي اعتقدت أنها لن تفلت منك يوماً.
تلغي المسافة بين ذاتك والآخر، لأنه غالباً ما يكون غريباً مثلك من عشاق السفر أتى كي يعيش مغامرة جريئة، يكتشف عبرها العالم وذاته أولاً، لا يهم الخطط ولا طرق الوصول، المهم أن تمضي متحرراً من كل شيء.
تجول متأملاً حين تمر من أمام الشاطئ الغريب مع كل تلك الوجود الغريبة والجنسيات المختلفة والأنوار المتقلبة والأبنية الشاهقة، تشعر أنك بعيد كلياً عن الحلم تزج في واقع كل ما فيه يحيلك إلى بهجة لا تنسى.
حين تتابع سيرك بمحاذاة تلك الأبنية الضخمة الشاهقة الطول القريبة المواجهة لشاطئ البحر تشعر كأنها تتحداه، مثلما تفعل أنت وتتحدى كل تلك العراقيل التي تتخيلها في لحظة قبل بدء الرحلة، لكن ما إن تنطلق في دروب السفر حتى تشعر بعدم جدوى الكلمات، تترك عقلك ساكناً هانئاً وتستسلم كي تمتلئ أحاسيسك بكل ما هو فريد.
والغريب أنه بعد انتهاء الرحلة والعودة إلى بلدك تشعر أنك أصبحت راوي قصص من طراز مختلف، تبدؤها بآثار تلك الأقدام التي طبعت على رمل بلاد أخرى تتتالى فوق بعضها لتمحو آثارها، ولكنها تنتقل إلى مكان آخر وبلاد جديدة ولن تمحى أبداً، في كل مرة يعمق مسافر ما تلك الآثار، ليشعر مع استمرارية الترحال أن الحياة لا تهرب منه.
السابق
التالي