د. محمّد الحوراني:
لم يَكُنْ استشهادُ الأمينِ العامِّ لحزبِ الله السَّيِّدِ حسن نصر الله جديداً على قيادةِ الحِزْبِ وقواعدِهِ وحاضِنَتِهِ الشّعبيّة، ذلكَ أنّ هذا الحزبَ قدّمَ عشراتِ الشُّهداءِ من خيرةِ قادَتِه في ساحات الصِّراع معَ العَدُوِّ الصهيونيِّ وأدواتِه، بل إنّ يقينَ قادَةِ الحزبِ، على المُستوَياتِ كافّةً، كانَ قَطْعيّاً وثابتاً، بأنّهُم مشاريعُ شهادَة، وأنّ الخِطاباتِ والكلماتِ والنّصائحَ التي طالَما وَجّهَها هؤلاءِ القادَةُ إلى جُمهورِ المُقاوَمةِ كانتْ راسخةً في عُقولِهم وقُلوبِهم، كما كانتْ منهجَ حياةٍ ومعالِمَ في طريقِ النَّصرِ المُقاوِمِ الذي اختارُوا السَّيرَ فيهِ حتّى نهايتِه، وهُمُ الأخْبَرُ والأعلمُ بوُعورَةِ مَسالِكِه، والأكثرُ يقيناً بنتائجِه.
نعم، لقد اسْتُشْهِدَ القائدُ الفذُّ والمُقاوِمُ الثابتُ على طريقِ فلسطينَ والقُدْسِ بعدَ أنْ أرْهقَ المُحتلَّ الصهيونيَّ، ومرَّغَ أنْفَهُ في جولاتٍ ومَعارِكَ عدّة، ولم تَكُنْ معركةُ “إسناد فلسطين” اليوم في سياقِ معركة “طُوفان الأقصى”، وما سبَقَها من معارِكِ الدَّعْمِ والإسْنادِ، إلّا واحدةً من هذه المعاركِ وحلقةً من حلقاتِ العِزِّ والفَخَار، ولكنْ مَنْ منّا لا يَذْكُرُ مفخرةَ عام 2000 وملاحمَ عام 2006؟ ومَنْ منّا لا يتذكّرُ تلكَ المجزرةَ التي ألْحَقَتْها المُقاوَمةُ بدبّاباتِ الاحتلال الصهيونيّ في الجنوب المُقاوِم؟ إضافةً إلى الإسْهامِ الكبيرِ لحزبِ الله وقائدِهِ السّيِّدِ حسن نصر الله في إفشالِ المشروعِ الدّاعشيِّ الإرهابيِّ الصهيونيّ الذي أُرِيدَ لهُ تفتيتُ المنطقة، انطلاقاً من خرائطِ الدَّمِ التي وَضَعَها القادَةُ الصّهاينةُ، مُعْتَمِدينَ في هذا على فِكْرٍ تلموديٍّ ونظريّاتٍ صهيونيّةٍ وَضَعَها المُنظِّرُونَ اليهودُ منذُ ما يزيدُ على مئةِ عام.
ولمّا كانَ السّيّدُ حسن نصر الله هُوَ العَقَبَةَ الكَأْداءَ في وجهِ تنفيذِ هذا المُخطَّطِ وغيرِهِ من مُخطّطاتِ إبادةِ الشّعبِ الفلسطينيِّ وتهجيره، كانَ لابُدّ للمُحتلِّ الصهيونيِّ أنْ يُقْدِمَ على اغتيالِهِ معَ ثُلّةٍ من القادَةِ المُقاوِمينَ، بعدَ أن نَجَحُوا في النَّيلِ من هذا العدُوِّ بإسْنادِهِمُ الأشِقّاءَ في فلسطينَ وتحصينِ بُنيانِ المُقاوَمةِ في عُمومِ دُوَلِها.
نعم، لقد اسْتُشْهِدَ سيّدُ المُقاوَمةِ بعدَ عامٍ من الإسنادِ والإيفاءِ بالوَعْدِ الذي قَطَعَهُ على نَفْسِهِ بدَعْمِ أهْلِهِ في فلسطينَ، رفضاً للمجازرِ التي يرتكبُها المُحتلُّ بحقِّ نساءِ فلسطينَ وأطفالِها ومُقدَّساتِها، وبعدَ أعوامٍ طويلةٍ من الإخلاصِ للفِكْرِ المُقاوِمِ ولِمَسِيرَةِ القادَةِ الكِبارِ الذينَ سارَ على نَهْجِهِمْ، إحْقاقاً للحقِّ ورَفْضاً للظُّلْمِ والعُدْوان، وما كانَ لِيَدِ الغَدْرِ والخِيانَةِ الصّهيونيّةِ أن تنجحَ في الوُصولِ إلى القائدِ الشّهيدِ لولا تخاذُلُ بَعْضِهمْ وخِيانَتُه، ولولا رغبةُ بَعْضِهِمُ الجامحةُ في العودةِ بلُبنانَ والمِنطقَةِ إلى مشروعِ الشَّرقِ الأوسطِ الجديد الذي اشتغلَتْ عليهِ سيّدتُهُمْ الأميركيّةُ قبلَ مُدّةٍ من الزمن، ذلكَ أنّ هذا المشروعَ لا يُمكِنُ أن يُنفَّذَ، والقادَةُ الذينَ أفْشَلُوهُ في يومٍ من الأيام مَوْجُودُون، تماماً كما أفْشَلُوا مشروعَ الخرائطِ الدَّمويّةِ المُرتَكِزَةِ أساساً على مشروعِ الشّرقِ الأوسطِ الجديدِ وغيرِهِ من المشاريعِ التَّفْتيتيّةِ والتَّدْميريّةِ للمنطقة، وهي المشاريعُ التي وَضَعَها المُنظِّرُونَ الصهاينةُ، واشتغلَتْ على تنفيذِها ودَعْمِها الإداراتُ الأميركيّةُ المُتلاحِقَةُ من خلال الكيانِ الصّهيونيّ وأدواتِه.
إنّ ما قامَ بهِ الكيانُ الصهيونيُّ من عمليّةِ اغتيالٍ آثمةٍ للأمينِ العامِّ لحزبِ الله السّيّد حسن نصر الله ورفاقِ دَرْبِهِ ما كانَ لِيَحْدُثَ لولا الدَّعمُ الأميركيُّ والغربيُّ المُطلَقُ للكيانِ الصهيونيّ، كما أنّ هذهِ الجريمةَ النّكراءَ ما كانتْ لتتمَّ لولا الدَّعمُ الذي قدّمَهُ بعضُهم من أبناءِ جلدتِنا إلى هذا العدُوِّ المُجرمِ في حَرْبِهِ على فلسطينَ وقُوى المُقاوَمةِ في لُبنانَ والمنطقة، ولهذا فلا غرابةَ أن يفرحَ بعضُ العُملاءِ والخَوَنةِ بهذِه الجريمةِ الصهيونيّةِ، بعدَ أنِ ارْتَضَوا أنْ يكونُوا أدواتٍ رخيصةً وأذناباً لهذا المُحتلّ، وبعدَ أنْ وَقَفُوا معَ الجلّادِ، ومَسَحُوا بجِباهِهِمُ الذَّليلةِ وسخَ المُحتلِّ وقذاراتِه.
نعم، لقد تحقّقَ لسيِّدِ المُقاوَمةِ ما أرادَ، ولقد صَدَقَ ما عاهَدَ الخالِقَ والخَلْقَ عليهِ، ومضى في مشروعِهِ ومعركتِهِ إلى النِّهايةِ، قابضاً على جَمْرِ الخلاصِ والتحرير، إيماناً منهُ بأنَّ المُقاوَمةَ هي السبيلُ الوحيدُ لاستعادةِ الأرض وحمايةِ العِرْض، ولم يَكُنْ، رَحِمَهُ اللهُ، على استعدادٍ للمُهادَنةِ أو التَّنازُلِ عن أيٍّ من الثوابتِ التي دافعَ عنها حتّى آخرِ قطرةِ عِزٍّ وثبات.
إنَّ تاريخَ مَسِيرَةِ الأُمَمِ والشُّعوبِ في الكِفاحِ والتحرير لا يُمكنُ أن يَنْتَهِيَ أو يتوقّفَ باستشهادِ قادَتِها، حتّى وإنْ كانَ هؤلاءِ القادَةُ بقامةِ قائدِنا الشهيدِ وقيمتِه، بل إنّ تاريخَ النِّضالِ والمُناضِلينَ يُؤكِّدُ أنّ دماءَ القادةِ الشُّهَداء ما هيَ إلّا مشعل نور يُضيءُ طريقَ المُقاوِمينَ في ظُلمةِ الطريق، كما أنَّ مَنْ يَخْلُفُ الراحلينَ من القادةِ الكِبارِ يكونُ أكثرَ تَمسُّكاً بمبادِئهمْ وأكثرَ التزاماً بسِيرَتِهمْ ومَسِيرَتِهمْ، وأنّ هذا الالتزامَ لا يُمكِنُ أن ينتهيَ مهما طالَتِ الحربُ، وتكالَبَ الأعداءُ، وتآمَرَ المُتآمِرُون.