الملحق الثقافي:
إن القضية الأساسية في الحداثة لم تعد تكمن في كتابة الشعر وزناً أو نثراً، وإنما أصبحت تكمن في الأفق الكشفي- المعرفي الذي تؤسس له هذه الكتابة، داخل التاريخ العربي، من جهة، وخارجه- في تاريخ الإنسان المعاصر، من جهة ثانية.
إن مشكلة الحداثة الشعرية في اللغة العربية جزء جوهري من مشكلة المعرفة- بوصفها علاقة بين الإنسان والمجهول، ومن مشكلة العلم بوصفه علاقة بين الإنسان والطبيعة، ومن مشكلة التقنية بوصفها عملاً وتطبيقاً، وهي إلى ذلك وبفعل ذلك لا تنفصل عن مشكلة أعم ترتبط بوجود العرب ومصيرهم الحضاريين على السواء.
وفي هذا الأفق نرى أن معظم الكتابات السائدة عن الحداثة، ليست إلا تغييباً للمشكلات الحقيقية التي تطرحها تجربة الحداثة.
ليست الحداثة الشعرية من هذا المنظور مجرد بنى وتشكيلات كلامية، فهي تفترض بدئياً، معرفة الشاعر العربي نفسه بوصفه ذاتاً، وبوصف هذه الذات لغة، ويوصف هذه اللغة أداة كشف، وإفصاح، وإيصال، هذه الإحاطة المعرفية بالذات، والتي هي الشرط الأول والبدهي لكتابة الحداثة تعبيراً عن الذات، إنما هي في الوقت نفسه، الشرط الأول البدهي للعلاقة الخلاقة مع الآخر.
غير أن هذه المعرفة في المجتمع العربي ليست سهلة، بل أذهب إلى القول إنها، على العكس، شبه متعذرة، في أوضاعه القائمة. والممارسة هنا، إما أنها نوع من المناجاة لا تتعدى الذات، وإما أنها نوع من المداورة، ولا تتحرر الذات حقاً إلا إذا مارست المعرفة، كشفاً وإفصاحاً، بحرية كاملة، ولا تكتب الذات حقيقتها إلا في مثل هذه المعرفة الحرة، وهذه الحرية المعرفية.
نستخدم جميعاً في كلامنا على الشعر، اليوم عبارة الشعر العربي الحديث، والحداثة الشعرية العربية بيقين الواضع يده على الحقيقة، وباطمئنان، فمن أين يجيء هذا اليقين وهذا الاطمئنان؟ إن قيل لنا مثلاً: إن «كلمتي «حديث» و «حداثة» استعارة من الآخر الأجنبي شأن كلمات وأشياء أخرى كثيرة، إن قيل إنهما عبارتان ألصقناهما على نتاجنا الشعري اليوم، بعد أن حملناهما الدلالات نفسها التي تحملهما عن ذلك الآخر الأجنبي، وأخذنا ننتقد ونقوم نتاجنا في ضوئهما، إن قيل لنا ذلك، فما يكون ردنا؟ واستطراداً، هل يكون شأننا مع هاتين العبارتين، كما هو شأننا، مع عبارات أخرى نعرفها جيداً، كمثل الثورة والديموقراطية، والحرية والإشتراكية، وغيرها؟ نكتب عنها الكتب، ونقيم لها الندوات، والمهرجانات، وباسمها ندين، ونبرئ، نحكم ونحاكم، وليس لها مع ذلك وجود حي في المجتمع، ولا تمارس على أي مستوى. إنها موجودة على الورق وبين الشفاه، لا غير. كيف إذن نغامر في الكلام على قضية لم تبدأ بأن نطرح حولها السؤال المعرفي الضروري: هل ما يسمى بالحداثة في الشعر العربي حداثة حقا، وهل هذا الشعر الذي يوصف بالحديث حديث حقا؟ كيف نصف شعرا بأنه حديث إذا كان لا يسير في الأفق المشكلي التساؤلي الذي تفتحه كلمة «حديث» أو «حداثة» بمفهومها المعروف، سواء على صعيد الكينونة وجوداً وعدماً، أو على صعيد العلاقة بين الكلمة والشيء، أو على صعيد السلطة ورموزها في مختلف أنواعها،ومستوياتها وبخاصة غير السياسية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتاب العربية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتابة العربية، قارة الجسد، بأبعادها وأعماقها وتخومها- من الرغبة والحلم والصبوة واللعب والعبث والمعنى والسر، وهذه الكيمياء التي تخترق هذا كله وتتموج محيطا بلا حدود؟ أليس من الأوليات إذن أن نتحقق من وجود الشيء قبل أن نشرع بوصفه وتحليله؟
يتعذر فهم الظاهرة في الأعمال الكتابية التي ندعوها حديثة. إذا لم نفهم بنيتها الباطنة، وهذا ما يستلزم جلاء لما أسميه بالتباسات الحداثة في المجتمع العربي. منها على سبيل المثال: الالتباس التأويلي المرتبط بثقافة الوحي والذي يقيس الحياة والفكر والأدب على الوحي، فكما أنه لا تحديث في الوحي وهذا طبيعي، كذلك لا تحديث في هذه جميعا، وهذا أمر غير طبيعي. ومنها التباس الخصوصية والأصالة والأصل، وهل هذا الأخير في الشعر العربي والحياة العربية واحد أم متعدد؟ ومنها التباس الهوية ومفهوم الآخر، وهل الحداثة تطابق مع الهوية، وكيف يكون هذا التطابق؟ أم أن الحداثة انشقاق؟ وكيف؟ ولماذا؟.
لنقم ببعض المقارنات بين الحداثة في الغرب وما نسميه الحداثة في المجتمع العربي، نشأت الحداثة في الغرب في تاريخ من التغير عبر الفلسفة والعلم والتقنية ونشأت الحداثة العربية في تاريخ من التأويل، تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني وبالماضي إجمالاً.
ومن هنا تنتج الفروقات التالية:
الأولى، الغربية- مغامرة في المجهول، في «ما لم يعرف» والثانية، العربية – عودة إلى المعلوم.
الأولى، تؤكد على الأنا- الذات، والثانية تؤكد على النحن- الأمة.
الأولى، لا مرجعية لها إلا الإبداعية، والثانية، قائمة على المرجعية من كل نوع.
الأولى، نوع من المناجاة، والثانية، صلاة إلى القبيلة أو الحزب أو الأيديولوجية.
الأولى، تتحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس وللرموز الدينية، عالم انتصر فيه الدنيوي، والثانية، تعيش في عالم لا سيطرة فيه إلا للمؤسسات والرموز الدينية.
الأولى، تساؤل وشك، والثانية يقين وتسليم.
الأولى، انفتاح ولا نهائية، والثانية مذهبية وانغلاق.
الأولى، تتأسس على البعد النقدي والحركية، والثانية، تتأسس على بعد القبول والخضوع.
الأولى، فرادات، والثاني، أنساق، الأولى، انفجار معرفي همشت فيه الرؤية الدينية، والثانية، هامش صغير في متن تسيطر عليه وتوجهه الرؤية الدينية.
الأولى، تعدد واحتمالات، والثانية، واحدية، مبدأ وحيد مؤسس وحقيقة واحدة مطلقة.
الأولى، تتحرك في عالم أمات مفهوم الله وأحيا الإنسان، والثانية، تتحرك في عالم الإنسان فيه هو الميت والله فيه هو وحده الحي.
الأولى، تفترض في الذات، وفي من تخاطبه، الحيرة والغموض والشك، والثانية، لا تفترض في الذات، وفي من تخاطبه إلا طاقة الوضوح، والإيمان واليقين.
الأولى، تصدر عن قيمة ترد إليها جميع القيم، قيمة تهيمن على وعي العصر وتوجهه، والثانية، ليست هامشا وحسب وإنما هي منبوذة أيضا ولا تعيش إلا بفضل التصدعات القائمة في المجتمع العربي.
الأولى، دنيوة، والثانية، ديننة.
بيان الحداثة (أدونيس 1992)
العدد 1210 – 22 – 10 -2024