إقبال قارصلي.. فنانة رائدة تجاوزت عصرها

الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
نقف في هذا العدد عند مسيرة فنانة سورية حافلة بالعطاء.. إنها الرائدة إقبال ناجي قارصلي، التي أعطت الكثير من خبراتها للفن التشكيلي، وأحسَّت بروحها تغرق في خضمِّ تفاصيل اللوحة الملوَّنة، والحاملة للون الواحد وتدرُّجاته وما يناسبه من ألوان الطبيعة والجمال وهموم الناس البسطاء وحركتهم، إذ قضت طفولتها ما بين دُمَّر والزبداني وغوطة دمشق، وعاشت سنواتها الإحدى عشرة مع زوجها في تدمر، حيث التاريخ الضارب جذوره في أعماق التراث العريق، وكلها أمكنة نهلت من معينها الكثير، واختزنت ذاكرتها بكلِّ ما فيها من جمال وألق المكان، وكانت بلا شك من أوائل النساء اللواتي اقتحمن عوالم الفن التشكيلي، الذي كان حكراً على الذكور حصراً حينها، وهي تنتسب إلى زمن رواد الفن التشكيلي في سورية من الذين بدؤوا المشوار الصعب، حيث كانت كل خطوة محسوبة على الصعيد الاجتماعي، والعمل بالفن التشكيلي، مرافقاً لتضييع الوقت فيما لا ينفع، وكان لدى إقبال الشجاعة لخوض مغامرة البحث عن الجمال ومعين الوجود وقدرة التعبير الفني المتناسبة مع مرحلتها التاريخية. وإذ نتلمَّس أعمالها بشغف، ونرى تلك البيوت المتراكبة فوق بعضها، والسهول والجبال تكتسي ثوباً قشيباً في تدرُّجات مناسبة للون الأخضر.. أما الأفق المترامي في الأطراف فيمدُّنا في أعمالها بإيحاءات عدة من البهجة والسرور والهدوء الداخلي لما تختاره من ألوان متوازنة تماماً مع أبعاد اللوحة.. إنها تنتقي ما يجول بداخلها من الفقراء في الحي والحقول، منوِّعة في الأساليب واستخدام الريشة والسكين، عاملةً ما أمكن على تطوير أدواتها الفنية والتقنية مثل: استخدام الريشة والسكين في أساليب شتى، ودراسة ثخانة الخطوط.. ونرى أنها فنانة سبقت عصرها في كمية التجديد الذي أدخلته على الفن كامرأة مبدعة في المجتمع، حيث وصلت أعمالها إلى لبنان ومصر وروسيا وألمانيا وأميركا وكندا وأستراليا وغيرها، وهذا رقم قياسي تُسجِّله فنانة سورية في ذاك الوقت، وفي سن أربعة وأربعين عاماً عاشتها من حياتها، بالإضافة إلى أنها أول فنانة سورية تقيم معرضاً فردياً لها، كما عرضت لوحاتها في السنوات الست الأخيرة من حياتها في (غاليري ون) ببيروت، وسوَّقت أعمالها إلى بلدان العالم. في حين لم تتوقَّف معارضها بعد رحيلها؛ بل أُقيمت عدة معارض لأعمالها في المركز الثقافي العربي بدمشق، بمبادرات من وزارة الثقافة ونقابة الفنون الجميلة إحياءً لذكرى فنانة مبدعة أضافت بجدارة اسمها إلى قائمة روَّاد الفن التشكيلي العربي والعالمي، فكانت علماً من أعلامه.
ولدت الفنانة إقبال قارصلي في دمشق عام 1925، وسُمِّيت إقبال تيمُّناً باسم الشاعر الهندي الباكستاني محمد إقبال لأنَّ والدها المُربِّي محمد ناجي كان مولعاً بالشعر والفنون عموماً.
لم تدرس الفنانة الرسم دراسة أكاديمية؛ بل ثقَّفت نفسها عن طريق القراءات الفنية والأدبية والجرائد والمجلات بشكل مُكثَّف.. وشاءت الصدف أن تقيم مع زوجها فيما بعد داخل البيت الذي غادره فنان فرنسي، وترك فيه بعض رحيله عام 1946 رسوماً على الجدران ولوحات له ولعددٍ من الفنانين الأوروبيين، ما أغنى ذائقتها الفنية.. ولم ينتهِ طموحها وحبُّها الكبير للرسم، فانتسبت وهي في مدينه دمشق إلى معهد الجواهري في مصر للدراسة بالمراسلة بين عامي 1956- 1958.. عندها رصدت طبيعة سورية، وساعدها في ذلك اضطرار والدها المُدرِّس للتنقُّل بين قرى ومدن الريف السوري، وبعدها زوجها حيث عاشت معه في تدمر من عام 1940 لعام 1950، كما أنَّ الفنانة كانت تعمل على تطوير أدواتها الفنية والتقنية، وتحاول امتلاك كلّ مفردات فنِّها.
قال الفنان والناقد التشكيلي طارق الشريف: (إنَّ إقبال قارصلي أعطت الكثير في ظروف كانت صعبة للغاية، وذلك لأن الحركة الفنية كانت في بداياتها، وعلينا أن ندرك صعوبة الانتساب إلى معهد أو مدرسة فنية، كذلك صعوبة دراسة الفن دراسة أكاديمية سليمة في ذلك الوقت… إنها تستحقُّ كلَّ التقدير لجرأتها في تحدِّي المصاعب والعقبات).
بجانب كل ذلك اعتنت الفنانة بأسرتها، وأشرفت عليها باقتدار فأبناؤها وليد الفنان التشكيلي، ومحمد المخرج المسرحي المعروف كان لهما بصمة لن تمحى في مجال عالم الفنون والرسم.. لقد ربتهم على حبِّ الوطن والعلم، وأن يعشقوا كلَّ ما يُبدعه الإنسان، إذ جعلت من بيتها فيما بعد متحفاً صغيراً، وجعلت من أولادها نماذجها، وجمعت شخصيتها بين الشعرية والصرامة والأصالة.
كتبت الفنانة في مذكراتها: (إنما يربط الإنسان بالفن هو تلك الحاجة للتعبير الإبداعي، والتي يتفرَّد بها الإنسان عن كلِّ الكائنات الحيَّة.. فالفن أداة للتعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية.. والفنان الحقيقي يرى فعلاً أنَّ كل واقع معاش له ارتباط بالفن، وكل ما في الفن له ارتباط وثيق بالحياة)، فالفنانة إقبال فتحت الباب على مصراعيه أمام المرأة السورية للدخول إلى عالم الفن التشكيلي، وارتبطت بالواقع المعاش، وأعطت للوحاتها عدة تأثيرات لونيَّة وخطيَّة، ودرست الهارموني العام للوحة باتزانٍ وعقلانيَّة، فهي مصوِّرة بارعة طرقت باب الفن الواقعي والانطباعي والتعبيري والحديث في بعض النواحي من أعمالها، إضافة إلى اختيارها للموضوعات من زوايا ناجحة، وامتلاكها لنظرة جمالية نكاد نفتقدها عند فنانين كثر، إضافة إلى أنها صادقة في نقل مشاعرها لكلِّ لوحة من لوحاتها، والولوج في التفاصيل الدقيقة بإحساس عميق جداً للأشياء والأبعاد والعناصر الموزَّعة على اللوحة، فهي تصوِّر أعمالها بشغفٍ شديدٍ وتواضعٍ وعناية ونظافة بعملها وخلفيَّاته.. إنَّها تشكيلية تغوص في دقائق الأمور، وتتداخل لديها الخطوط والألوان بتناغم موسيقي آسر يدلُّ في كلِّ الأعمال على تمكُّنها من أدواتها، إذ أنتجت خلال رحلتها الفنية حوالي 750 لوحةً، ودأبت على المشاركة في المعارض الجماعية والمحلية والدولية، ونالت العديد من الجوائز، وأكَّدت في أعمالها خصوصية الطبيعة وفي الرسم خارج الأستوديو، مستخدمةً ألواناً سميكة بوساطة السكين أو فرشاة الرسم في تصوير حياة الناس من حولها أينما ذهبت.. وظل حلم يراودها بعيداً عن الاهتمام بالزوج والبيت وتربية الأطفال، وقد تطوَّرت تجربتها في دراسة الشكل من حيث اللون والحجم والتكوين، وذلك ناتج عن انفتاحها على الثقافة البصرية الغربية.. في حين تجلَّت أعمالها بالشاعرية والغنائية والبحث والتجريب التقني، فاشتغلت على التأثيرات التي تتركها العجائن والسماكات اللونية، وأحياناً من خلال كشط اللون في أعمال عدة، وبجانب هذا تعايشت مع الريف فكان للزبداني ومعلولة وطريق الديماس حضور في ذاكرتها.. في حين كان للحراك السياسي والوطني، وما يحدث في سورية جوانب عديدة، إذ تناولت في لوحاتها (الثورة السورية الكبرى.. إلى متى.. نازحات)، راسمةً كلَّ ذلك بإحساس كبير بالمسؤولية الوطنية والسياسية والاجتماعية، كما شاركت في حملة التبرُّع للمقاومة الشعبية، وكانت متطوعة لعلاج جرحى الحرب، وجمع المساعدات للنازحين، كذلك شاركت في دروس تعليم محو الأميَّة، وتعليم الفتيات الفنون التطبيقية، إضافة إلى دورها الإيجابي في المعركة الإعلامية التي قادها الفنانون التشكيليون خلال وبعد عدوان حزيران عام 1967، وشاركت أيضاً في جميع المعارض التي أقيمت حول استنكار العدوان والتعبئة والمقاومة، ورسمت الفدائيين ونضالهم من أجل الأرض المحتلة والنازحين، وكانت ناشطة اجتماعية وداعمة لحقوق المرأة.
قال الفنان فاتح المدرس: (إقبال قارصلي كانت إحدى النساء القلائل في سورية المستقلة حديثاً، التي ترسم كواجب ثقافي لبناء غدٍ أفضل.. كانت تشعر بهذه المسؤولية الحضارية، وكانت من الطليعة الرائدة.. إنَّ قيمة هذه السيدة السورية العظيمة تكمن في الطاقة المهمة التي تتمتَّع بها المرأة السورية المثقفة في مجتمع حصل على استقلاله في أواسط الخمسينيات بعد ركودٍ دام قروناً.
                          

العدد 1210 – 22 – 10 -2024 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها