هفاف ميهوب
أكثر ما يلفتنا ونحن نقرأ في الآدابِ العالمية، ما يتناوله أدباء وكتّاب ينتمون إلى جيلِ الخمسينيّات.. ما يتناولونه في كتاباتهم التي تُشعرنا، بأنهم وضعوا فوضى وخراب واضطرابات وحروب عالمهم، في كفِّ حاضرنا ومستقبلنا، ليبشّرونا بعدها:
«ستهلُّ علينا أعوامٌ أكثر سوءاً، وتجعلنا أكثر عمى.. ستهلُّ علينا أعوامٌ أكثر حزناً، وتجعلنا أكثر برودةً وجفافاً وكآبة»..
هذا ما فعله كّثر من أدباءِ هذا الجيل، ومنهم الأديب والكاتب الإسباني «رفائيل فرلوسيو»، صاحب القول الذي ذكرناه، والذي حمّل غالبية أعماله، الكثير من التشاؤم والسخرية، إضافة إلى نقدهِ اللاذع للعديد من القضايا والموضوعات، ودون أن تخلو أفكاره من نبوءاتٍ تحذّر: «الآتي من الزمان أسوأ».
إنها مجموعة نصوصٍ، واجه من خلالها القارئ، بفكر وثقافة وإيديولوجيا القادم الأسوأ، وفي كلّ مجالات الحياة، ولا سيما وسائل الإعلام التي قال عنها:
«بلغت وسائل الإعلام من الضخامةِ والسطوة درجة، أن الخبر بات أثقل وزناً بكثيرٍ من الشيء الذي يُخبر عنه.. لهذا، ومن وراء ظهراني الخبر الذي يُعلن، يكون الحدث المُعلن عنه قد تنامى بشكلٍ مضاد.. إنه الخبر الآخر الوحشي، الذي لا يقلّ فظاعة عن السطوةِ الوحشية للخبر الذي يحدث»..
انتقد أيضاً، وبأسلوبٍ فظٍّ ومتشائم، الحالُ الدائم الذي يعيشه الإنسان، ويُبقيه على ما هو عليه.. الظروف المُرهِقة، والوجود المستمر داخل الاستيقاظ، وفي نفسِ الساعة وكلّ ليلة، وكذلك «الارتطام دائماً بنفسِ الأحجار، وبنفسِ الشياطين وبنفسِ الآلام».
هذا وغيره، من الأفكارِ والرؤى والأطروحات والآراءِ والنظريات الفلسفية الخاصة، هو ما تناوله «فرلوسيو» ساخطاً وكارهاً وغاضباً، من القادم الأسوأ، وسواء عبر جملٍ ومختاراتٍ قصيرة ومنوّعة، أو نصوصٍ نثرية، أو حتى ترانيمٍ حزينة وعدميّة، تحاكي الواقع والحياة، بل والزمن بسخريةٍ عالية:
«القول بأن الزمن يداوي كلّ شيء، يتطابقُ إلى حدٍّ بعيد، مع يخون كلّ شيء.. فهل سأتمكن من العيش دون خيانة؟».
نعم، هذا ما تناوله «فرلوسيو» في ابتكاراته التي تحدّى بها عقلية القطيع، واللغة المعتلّة في منطقها..الابتكارات الأدبية التي عكست، عمّق تأملاته الفلسفية والنقدية لكلّ شيء، بدءاً من الشعور بالمواطنة، وصولاً لأكثر المبادئ الإنسانية رسوخاً، مثل الحق والخير والجمال، مروراً بالأدب واللغة والسياسة وعلوم اللغة والجمال، ودون إغفالِ التاريخِ بكلّ ما فيه من مآس وهزائم وانتصارات، إضافة إلى سعيه لنقدِ الذات.
هذا ما تناوله ووضعه في كفّ هذا الزمان المتردّي في كلّ جوانبه، وإلى الحدّ الذي جعلنا نقول، ونحن نرى بأن ما نعيشه من بشاعاتٍ، قد فاق توقعه:
لا نعتقد بأن ما سيأتي من أزمنةٍ، سيكون أسوأ من هذا الزمان، الغارق في عماه وأحقاده وفوضاه وصراعاته ومرارته، وفي اعتلالِ وإجرامِ، حتى وسائل إعلامه وثقافته وتقنيّته.