الملحق الثقافي- ديما يوسف سلمان:
في عالمٍ يزدادُ تعقيداً في ظلّ الثّورة التّكنولوجيّة والصّراعات العالميّة الكبرى، كيف تبدو فكرة القومية العربية ؟! خصوصاً هذا العالم الذي يشهد تكتّلات واتّحادات مختلفة جمعتها الكثيرُ من المصالح المشتركة، بينما العالمُ العربيّ الذي يحقّق كلّ الشّروط المناسبة للتّكتل والاتّحاد تمزّقُهُ الحروب والصّراعات الطائفيّة والدّاخليّة تحت مصطلحاتٍ مختلفة، أقلّه ما سمّي منها بالرّبيع كان ظلامَ الفصول والقرون والعقول والأفكار.. والنّتيجة بلدانٌ تتجاذبُها الصِّراعات والاقتتال وتمزّقٌ في الفكر والهويّة، فضلاً عن واقعٍ اقتصاديٍّ مرير يقودُ إلى المزيد من الأمراض الاجتماعيّة.
وبالتأكيد ما مرَّ على بلداننا في العقود الأخيرة كانَ أكثرَ من حرب، لقد حملَ بشاعةَ الحرب وجحيمَها، والأسوأ كان ضياع الهويّة، فالتّشرد والهجرة والأفكار الدّخيلة غزت مجتمعاتنا، يؤجّجُها غزوٌ ثقافيٌّ ممنهج، وإعلامٌ مموّل يزجُّ السّمَّ في العسل.. فالحربُ جاءت بكلِّ الأشكال هذه المرة؛ والغزوُ الثّقافي أشدّها بشاعة؛ كلّ هذا سبّبَ تراجع المشروع القوميّ العربيّ ، بل حتى التّشكيكَ في العروبة والفكرة القوميّة وجدواها.
ولا نريدُ أن نعودَ الى بداية الحرب السّورية حيث تُركَت وحيدة تواجهُ سكاكينَ الغدر تحت مسمّيات وتبريرات لا أنزل الله بها من ميزان، ولكن؛ رغم هذا أليست الحرب على سورية جزءاً من الحرب على هذا المشروع القومي العربي الكبير؟! ألم تكن سورية على الدّوام مركز الأمّة العربيّة والحضن المفتوح للجميع، ألم تكن عنوانَ العروبة؟! لقد تبنّت الفكرةَ قولاً وفعلاً ، ولا شكّ أنَّ الحربَ على سوريّة كانت جزءاً من الحرب على هذا المشروع ، والمستفيدُ هو العدوُّ الذي يسعى لضياع الهويّة العربيّة وبعثرة القضية ، هذا العدوّ هو نفسه الذي يضرب غزّة ويقتل أطفالها اليوم ، وهو نفسُه الذي يسلّطُ نيرانَه على جنوب لبنان على كلِّ من يحمل همَّ القضيّة ويدافعُ عنها .. وكلُّ ماحدث في السّنوات الأخيرة ، والدّماء التي سالت نتيجة حروب لا دين لها إلا التّخلف والفكر الظلاميّ ، انعكست سلباً على المشروع القوميّ بسبب حالة التّشتت والتّمزق التي سادت في الفكر وعلى كلِّ الصّعد . وعلى الرّغم من الآثار السّلبية للثّورات المزعومة بحجّة الحرّية و رغم المحن القاسية ورغم ما تعرّضت له فكرة القوميّة العربيّة ؛ لكنّها ظلّت رغم الهجمات ومحاولات التّقزيم والتّشويش وهذا يتجلّى في النقاط التالية:
١_ الحالة الشعبيّة العامّة تثبت روح الفكرة القوميّة ووجودها ، وقد أجّجَ طوفانُ الأقصى الشّعور القوميّ الملتهب كما تظهر وسائل التواصل الاجتماعي حجم التّعاطف الكبير والحزن العربي الواحد على ما يجري في فلسطين وجنوب لبنان . ٢_ رغم التّشتت العربي تبقى الهويّة العربيّة في اللّغة التي كانت وستبقى العنوان الأكبر للاستمرار..
٣_ العودة الى معاني الأدب المقاوم وتجسيدها من خلال أعمالَ إبداعيّة توصّف الحرب الأخيرة بكلّ مراراتها .. ٤_ لا ننكر أنّ هناك اتجاه للعولمة السلبيّة التي تقوم على التّجرد من الانتماء والهويّة ، ومن كل ما يمتّ للفكرة القومية، ولكن لا زال بالمقابل اتّجاه مضاد وهو الأكبر يؤكّد ويثبت فكرة القوميّة العربيّة يدافع عنه مثقّفون ومبدعون وتتبنّاه تيارات من مختلف البلدان العربيّة .. ولكن مشروع القوميّة العربيّة يحتاج الى الكثير من الدّعم وخصوصاً من النّواحي التّالية:
١_اللّغة العربيّة هي جوهر القوميّة العربيّة وعنوانها ، فهي الجذور العميقة والعريقة التي ترتكز عليها هويّتنا وانتماؤنا وكم تحتاج الاهتمامَ والدّعمَ في ظلّ ثورات التّكنولوجيا، فلا بدَّ من حمايتها لتبقى أغصانُها حيّةً مورقةً رغم كل التحدّيات والظّروف
التّكامل الإقتصادي العربي ؛ فالبلاد العربية متنوعة الثّروات الزّراعية والباطنيّة وتتوفّر فيها مقوّمات التّكامل الإقتصادي الذي يجب إحياؤه ، وكلّما كان العرب قوّة اقتصاديّة واحدة كلّما برزوا كقوّة عالميّة مؤثّرة.
٣_ النّهضة العلميّة المشتركة ؛ فبالعلم تنهضُ الشّعوب وتُبنى الأمم ، ونحن بحاجة الى الدّعم العلميّ ، وتطوير الأبحاث، والحدّ من هجرة العقول العربية ، وتقديم الفرص المناسبة للشّباب العربيّ المبدع.
٤_ بثّ الوعي لدى الأجيال الشابة بأهمية اللُّحمة العربية ، وتكريس فكرة القوميّة العربية بدءاً من المناهج المدرسيّة والى ميادين الحياه المختلفة. بالتّأكيد المشروع القوميّ العربيّ حلمٌ كبيرٌ يبقى رغم الطّعنات والجراح حيّاً أخضراً كما قال شاعر العروبة سليمان العيسى يوماً ما ، ومنذ أكثرَ من أربعة عقود من الزّمن ؛ لقد قال في مناسبة تكريمية له كأنّه يتحدّث عن الواقع المرير اليوم : «مازالت قوى الدّمار تصرّ أن تقنعنا بعبارة واحدة بعد كلّ هزيمة ، بعد كلّ نكبة ، بعد كلّ مذبحة أننا انتهينا .. ويجيبها أربعةُ ملايين طفل يولدون كلّ عام في الوطن العربي ، يقولون لقوى الدّمار : نحنُ باقون أمّتُنا كالبحر .. تموت موجة.. موجتان .. أمواج .. ولكنّ البحرَ باقٍ لا يموت « . إنَّ الدماء التي دفعها أطفالُ فلسطين وجنوب لبنان ، وقبلهم أطفال سورية في المحنة التي تعرضت لها ؛ وحدها تهزُّ ضمير الانتماء العربي ، وكلَّ متشدّقٍ لمفاهيم الدّيمقراطية والإنسانيّة ، وحدها هذي الدّماء الزكيَّة يجب أن تحرّكَ السّؤال : إلى متى تضيّعون هويّتكم في عالمٍ يلفظكم ويتآمر على وجودِكم واستمرارِكم ؟!
العدد 1213 – 12 – 11 -2024