الملحق الثقافي- د. ابراهيم استنبولي:
«الكلمة أغلى من الجواد»
مثَل شعبي داغستاني
في أول تصوفْكرا – الأول المعروف بـ»البهلوانين المهرة وبالراقصين على الحبال»– يَعتبِرُ الأهالي أنَّ يومَ ميلاد الصبي عندهم هو اليوم الذي يبدأ فيه الصبي الصغير المشي على الحبل لأول مرّة. أما في أول كوباتشي المشهور بالحدادين الماهرين، فيعتبرون يومَ ميلاد الصبي هو ذاك اليوم الذي يحمل فيه الصبي لأبيه أول باكورة أعماله – زخارف قام بنقشها على الفضة – وحين يصرِّحُ الوالد المبتهج: « ها لقد وُلِدَ عندي أيضاً صبي!»
عندنا، في جبالنا الشاهقة، يقال عن الإنسان الذي يفتقد للطموح وللموهبة، والذي لا يقوم بأي عمل مفيد ولا يعرف الصداقة والإخلاص، والذي لا يحلم بالبطولات:» عاش حتى نال منه الشيب، لكنّه لم يرَ النورَ».
لديَّ الآن صنفان من الشعر في رأسي، لكن يصعبُ عليَّ القول: متى وُلِدْتُ؟
ربما حين قمتُ أنا، ابن الأحد عشر عاماً وقبل أن أعرف استعمال الحزام في البنطلون ولم أكن قد امتطيت الجواد بعد، بكتابة أول قصيدة وأنا مستلقٍ على جلد ثور كان ممدوداً على سطح الكوخ.
أو قد يكون ذلك حدث في وقت متأخر – في ذلك اليوم الذي ظهرت أول قصيدة لي في جريدة الحائط في المدرسة. وربما أنا ولدتُ في عام 1943 حين قامت دار نشر داغستانية بطباعة ديواني الشعري الأول.
أنا لا أعرف متى قال أبي، ذلك الجبليُّ الشحيح في المديح، في سرّه: «وها أنا أيضاً وُلِدَ عندي صبي!». ولعله مات قبل أن ينطق بهذه الكلمات.
بغض النظر عن يوم ولادتي، فإني أعتبر أن ولادتي الحقيقية ترتبط بشكل وثيق مع ولادة أشعاري.
***
ولد رسول حمزاتوف في 8 أيلول/ سبتمبر من عام 1923 في أسرة الشاعر والفقيه الديني حمزة تساد أسا. وكانت التقاليد تفرض أن يُسمّى الابن الوليد على اسم أحد الأعمام أو الأجداد.
«عندما حان وقت ولادتي، لم يكن قد بقي عند أبي أحد من الأقارب والأصدقاء الذين رحلوا حديثاً، وبحيث أنه كان يمكن أن أحمل بشرف اسمَ أحدهم – كتب رسول حمزاتوف – وعندما ولدتُ، قام أبي ولكي يبقى ملتزماً بطقوس اختيار الاسم للابن، بدعوة أكثر شيوخ الأول وقاراً وحكمة. جاء الشيوخ ودخلوا إلى الساكلا من دول عجلة ثم توزعوا فيها بطريقة احتفالية، كما لو أنه كان يتعين عليهم أن يجدوا حلّاً لمصير بلاد بأكملها. وكان كلّ واحد منهم يحمل في يدِه إبريقاً صغيراً من الفخار البلخاري. وكانت تلك الكؤوس تحتوي البوظة بالطبع. وحده الشيخ الأكبر سنّاً من بينهم كانت يداه فارغتيَن؛ كان الشيب يجلِّل رأسه ولحيته مما جعله أشبه بالنبي.
خرجت أمّي من غرفة أخرى وسلّمتني إلى ذلك الشيخ وهي تقول بينما كنتُ أنتفض بين يدي الرجل العجوز:
– لقد غنّيتَ في عرسي وعزفت على الباندور. وكانت الأغنيات التي أنشدتها رائعة. فأيُّ أغنية سوف تنشد الآن، أيها المُحترَم، وأنت تحمل رضيعي؟
– أواه، يا امرأة! هذا أنتِ، أمّه، مَن سيغنّي له الأغاني وأنتِ تهزّين مهدَه. ولتغنّي له فيما بعد الطيور والأنهار. وأما أجمل وألطف الأغاني فسوف تغنيها له عروسه.
– فَالتختَرْ له اسماً، إذن. دعني أنا، أمّه أسمع، وليسمع معي الأول بأكمله وكل داغستان ذلك الاسم الذي سوف تختاره الآن.
رفعني الشيخ على يديه عالياً نحو سقف الساكلا وقال:
– يجب أن يكون اسم البنت شبيهاً ببريق النجم أو رقيقاً مثل زهرة. أما اسم الرجل فيجب أن يعكس رنين الخنجر وحكمة الكتب. وقد عرفتُ الكثير من الأسماء بينما كنت أقرأ الكتب، وسعمتُ أسماءً كثيرة من خلال قرقعة الخناجر. وإنَّ كتبي وسيوفي تهمس لي الآن باسم واحد: رسول.
انحنى الشيخ الذي يشبه الأنبياء إلى أذني وهمس: -رسول- ثم انحنى على أذني الثانية وهمس من جديد: -رسول- ثم ناولني وأنا أبكي إلى والدتي وقال مخاطباً أمّي وجميع الحاضرين في الساكلا:
وهاهو رسول
صمت الحاضرون مؤكّدين بذلك على الاسم الذي اختاره الشيخ لي.
***
مقتطفات
من دستور الجبال
نحن نتعطش للحقيقة، لكن الكلمة الصادقة غير الماكرة فقط هي الحقيقية.
وسكانُ الجبال لا يمكرون لا في الأفراح ولا في الأتراح، لا في الحبّ ولا في الغضب. وقد حدث في الأيام الغابرة أنَّ ضيفاً عابراً طرح على اثنين من سكان الجبال عندنا سؤالاً واحداً: «ما هو، مع ذلك، أجمل ما في الإنسان؟». كان جواب الأول، الذي تعب من الحروب ضد جحافل الغزاة: «أجمل شيء – ظَهْرُ العدوِّ وقد بدأ يرتجف أثناء الاشتباك». أما الثاني، المزارع وراعي الغنم، فقد قال: «أجمل شيء – هو وجه صديق».
لقد نشأ وتشكّل مصيرنا ولا زال يتشكل بحيث أنَّ كلَّ جيل كان يواجه دوماً نفس السؤال الذي لم يكن يوماً بلا مبرر: «ما هو، مع ذلك، أجمل شيء في الإنسان؟».
المادة الأولى. الرجل
يجب أنْ يكون الخنجرُ حاداً، ويجب أن يكون الرجلُ شجاعاً. أولئك الذين يدفعون بأبنائنا وبأهالينا إلى المشاركة في الاقتتال الأخوي والذين يتعاملون مع السلاح المميت ويلعبون بالنار- لكل أولئك أريد أن أقول باسم داغستان، باسم مجلسنا هذا: إنهم لا يتصرفون لا بطريقة داغستانية ولا بطريقة قوقازية، لا كما يعلّمنا الإسلام، ولا كما يعلّمنا شامِل، ولا بطريقة إنسانية، لأنَّ سلوكهم تغلب عليه الأطماع وليست الموقف، يغلب ما هو عاطفيُّ على ما هو قومي، تغلب على سلوكهم الرعونة على الحكمة، الأنانية على المصالح العامة لكلّ داغستان.
المادة الثانية. المرأة
لو كانت مشيئتي لكنتُ اعتبرتُ هذه المادة هي الأولى. جاء فيها: «مقياس الكرامة الإنسانية بالنسبة للرجل هو موقفه من المرأة «. ويحقُّ للرجل أن يتعارك في حالتين فقط – دفاعاً عن وطنه وعن النساء الجميلات.
المادة الثالثة. الأطفال
إنهم يسيرون على خطانا. سألَ ملكٌ فارسي بعد هزيمته على أرض داغستان: «مَن هو قائدكم؟» تقدمت امرأة داغستانية عادية تحمل بين يديها طفلاً. نعم، تحت هكذا قيادة نحن انتصرنا وندافع عن حريتنا.
المادة الرابعة. الذاكرة
سيروا في أرضنا، اقرؤوا عن مدننا، تذكّروا أسماء التعاونيات والمعامل، أسماءَ الشوارع والساحات، أسماءَ المصانع والمعاهد والجامعات، وربما مناطق بأكملها. ينشأ انطباعٌ كما لو أنَّ داغستان أبصرتِ النورَ لأول مرة في عام 1917فقط. فإذا انطلقنا من تلك التسميات والمصطلحات، فسوف تختفي من الذاكرة مراحل كاملة من تاريخنا. ألمْ يكن لدينا قبل الثورة شعراء ومقاتلون؟ ألم تكن لدينا حروب، باستثناء الحرب الأهلية والحرب الوطنية العظمى؟ أيُعقل أنَّ بطولاتنا وأمجادنا وثقافتنا تمتد لـ75 سنة فقط ؟ لو كانت هناك شخصيات من أمثال شامل وحاج مراد في بلدان أخرى، لكانت أسماؤهم هي التي تزيِّن المدن والبلدات الحديثة. لكانوا شيِّدوا لهم تماثيل في الساحات المركزية لعواصمهم.
المادة الخامسة: الضيف- إكرام الضيف
المادة السابعة: الجار- حسن الجوار.
هذه المواد الثلاث مترابطة. «حافظوا على الأصدقاء، حاذروا أن تفقدوهم» – هذه كانت وصيّة الأجداد. وبودي أنْ أضيفَ الضيوف والجيران.
أهم وأثمن قناعة هـي القناعة النابعة من الداخل. وعلى أساس قناعتنا الداخلية سوف نتصرف. لقد انطلقتُ وانطلقُ من إدراك ما يلي: الأرض هي التي أوقفتنا على أرجلنا. وهي التي ستكون آخر مأوى لنا.
محج قلعة. نيسان 1997
1
«عقيدة» رســول
كلُّنا سنموت، لن نعيشَ إلى الأبد،
هذا معروفٌ وليس بجديد.
لكننا نحيا كي تبقى لنا ذكرى:
بيتٌ أو طريق، كلمةٌ أو شَجَرَة.
داغستان، يا ملحمتي، كيف لي
ألّا أصلّي من أجلك،
ألّا أحبّك،
وهل يمكنني أن أطيرَ بعيداً
عن سرب الغرانيق في سمائك؟
داغستان: سأتقاسمُ كلَّ ما أعطاه الناس لي
بالعدل معكِ،
وسأعلّق أوسمتي وجوائزي
على قممك.
…….
إلامَ أتوقُ أكثر من أي شيء؟
لقد عشتُ عمري،
فما الذي يمكنني أن أتمنى
سوى نزعةٍ إلى الحبِّ؟
تلك كانت هي إرادتي الأولى والأخيرة.
دعِ الحياةَ تعلنُ حكمَها في ساعة الحساب،
فأنا قلتُ وفعلتُ
كلَّ ما استطعت!
2
احفظوا الأطفال
لن أنسى، كيف قبضتُ بيدي
على يدِ أبي لحظةَ الوداع.
قبل أن يغلقَ عينيه المفعمتيَن بالحزن
إلى الأبد، نهض للحظة وقال في الختام
بصوت خافتٍ:» احفظِ الأطفال!».
راحت الشمس وهي تشرق ونجوم السماء
والنهر الهادر مع الجدول الصغير
تردِّدُ عبر السنين، مثل الصدى، خلفَه
في كلِّ يومٍ: «احفظوا الأطفال!».
حين توفيت أمّي، كنتُ بعيداً في دوامةِ
الأحداث والمشاغل.
لكن غصّة في حلقي لا تزال تخنقني
حتى الآن، لأني لم أتمكن من توديعها.
وعندما أنحني فوق بلاطة القبر الشجية
وبينما أمسح عن وجنتي الدموع
يتخيل لي أنّي أسمع صوتها الحنون:
«ولدي الحبيب، احفظ الأطفال!».
*****
«دعني أغنّي واسمَعْ نشيدي
حتى النهاية، أيُّها العصفور!»
«إذا كانت لديك روحُ مطربٍ حقاً
فلتصمتْ أنتَ حين أغرّدُ أنا!»
****
لكي يتحوَّلَ القردُ إلى إنسان
تطلَّبَ الأمرُ لا قرنا، بل كلَّ الأبد.
ولكن بلحظة واحدة، يا للغرابة،
يمكن أنْ يتحول الإنسانُ إلى قرد.
****
أرجوكم، أيها الناس، كرمى لله:
لا تستحوا من طيبتكم!
لم يعد ثمّة أصدقاء كثر في هذه الدنيا.
فاحرصوا ألّا تفقدوا أصدقاءكم!
العدد 1213 – 12 – 11 -2024