لم أكن قد اكتشفت بعد سحر القراءة، عندما كانت أمي التي اختبرت هذا السحر، واكتشفت ذلك السر حتى غدت كاتبة وأديبة، أقول لم أكن قد عرفت ذلك بعد، عندما كانت تدفعني للقراءة تارة كعقاب، وأخرى كمكافأة.. وكنت آنذاك أستغرب ذلك التناقض الذي تمارسه عليّ في أن تعاقبني فتدفع إليّ بكتاب للقراءة في وقت قصير، ومن ثم تسألني عما وجدته فيه، وعما فهمته منه، وفي وقت آخر تهديني كتاباً كمكافأة لي، ودون أن تسأل فيما إذا كنت قد قرأته أم لا.
وأذكر من تلك العناوين التي أُجبرت يوماً على قراءتها كعقاب لي على سوء تصرفٍ ما، ولم أكن قد تجاوزت السابعة من العمر أو حتى العاشرة، كتاب (اللؤلؤة) لجون شتاينبك، و(الصبي الأسود) لريتشارد رايت، و(موبي ديك) لهرمان ملفل، وغيرها.. والذي لم أكن لأفهمه إضافة إلى عدم فهمي للمعنى المختبئ وراء كلمات تلك الكتب، وتعثري في قراءتها آنذاك، لماذا كانت أمي تجبرني على قراءة أدب الكبار بينما مكتبتي الصغيرة تعج بكتب الأطفال؟ لماذا لم تدفع إليّ بواحد منها يمتعني، ويسليني، وينسيني أنني معاقبة؟ ترى هل كانت هذه هي صيغة العقاب الحقيقي؟ سؤال مازال يتردد في خاطري، ودون أن أسأل عن جواب له.
وبين سلوكين متناقضين أيضاً وقع موقفي من القراءة، إذ بعد تلك المرحلة العقابية وجدت نفسي أبعد ما أكون عن الكتاب، أو حتى أن أقرأ مقالاً لأمي في صحيفة أو مجلة، واللوم يطاردني على الدوام ليس من ضميري لأنه كان مرتاحاً لا يعذبني بل من أجواء البيت المفعم بالحوارات الفكرية، والأدبية، واللقاءات الصحفية، وزيارات كبار أدباء الوطن العربي.. إلا أنني بعد زمن ليس بالقصير وجدت نفسي فجأة ألهث وراء فسحة من الوقت تمكنني من قراءة كتاب، أو على الأقل ما يتيسر منه لأتابع ذلك في فرصة أخرى مماثلة.. هذا ما حصل لي عندما عثرت على السر الكامن وراء الكلمات التي أصبحت عندي كمفتاح سحري يفتح لي باب مغارات الكنز.
وبين السحر والسر أدركت كيف تقع متعة القراءة.. فهذا التوازن الدقيق، والتفاعل الفريد بين الخيال والواقع هو ما يجعل من القراءة تجربة مذهلة متعددة الأبعاد، ومليئة بالثراء المعرفي، ننغمس في العوالم الخيالية، ولكننا في الوقت ذاته نكتشف الحقيقة العميقة للوجود الإنساني. وهذا التفاعل الفريد أيضاً بين الممكن والمستحيل هو ما يجعل من القراءة تجربة مدهشة، تستمد متعتها من قدرتها على نقلنا إلى أماكن، وأزمنة مختلفة عن زماننا، وعالمنا المألوف إلى آخر متخيل، وغير محدود فنشعر معها وكأننا تحررنا من قيود الواقع فأصبح بإمكاننا استكشاف ما هو من الممكن قبل المستحيل، والمتخيل.. فأحدنا يستطيع أن يدخل إلى عقل الشاعر فيشاركه تأملاته، كما يستطيع أن يخوض رحلة البحث مع عالم فيزياء، أو أن يتعاطف مع بطل رواية فيتماهى معه بحثاً عن حلول الخلاص.. وهذا التوسع في آفاق الفكر، والمشاعر هو بحد ذاته جزء من تأثير تجربة القراءة.
مع كل كتاب جديد نفتح صفحاته، ونغوص بين لآلئ سطوره، تبدأ رحلة استكشاف جديدة.. فالكلمات تُحيِي أمامنا مشاهد، وشخصياتٍ كما لو أنها من لحم، ودم، وأحداثاً تتجسد في خيالنا وكأننا نراها بأم العين.. لتبرز بالتالي تلك القدرة على استنهاض طاقات الخيال الإبداعي، والتي تتيح نسج عوالم جديدة بحرية تامة.. وفي أعماق تلك العوالم المنسوجة بالكلمات، يجد القارئ متسعاً لينغمس في أجواء استثنائية قادرة على إثراء حياته، الروحية والفكرية.
وعلى الرغم مما توفره لنا حياتنا المعاصرة من إمكانية الوصول إلى كل معلومة، أو كتاب، والمعرفة في متناول أيدينا أكثر من أي وقت مضى، لا يزال هناك مَنْ لا يقرأ، ولا يبحث، ويكتفي بأن يعيش في عالمٍ محدود، وفقير، وقاصر عن تنمية مهارات التحليل، والتفكير النقدي، ومواكبة متغيرات الحياة المتسارعة، وبالمقابل يظل ذهنه محدوداً بما تعلمه في المدرسة، أو ما يتعرض له عبر وسائل الإعلام.