الثورة – تحقيق هلال عون:
تواجه سوريا مشكلة تضخم وظيفي كبير، وتشير التقديرات إلى أن القطاع الحكومي يوظف أكثر من 1.3 مليون شخص، في حين أن الحاجة الفعلية لا تتجاوز 50 -600 ألف موظف.
وعلى الرغم من هذا العدد الكبير، فإن الإنتاجية الفعلية لا تتعدى 40%، وفق إحصائيات غير رسمية.
الترهل الإداري يهدّد الإنتاجية
بعد عقود من الحكم المركزي والبيروقراطية الثقيلة، تجد المؤسسات الحكومية في سوريا نفسها أمام تحدٍّ مصيري، إذ تواجه مرحلة انتقالية نحو اقتصاد السوق التنافسي بعد سقوط النظام البائد.
هذا التحول يتطلب إصلاحاً إداريّاً جذريّاً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه المؤسسات مستعدة لهذا التغيير؟ أم أن الإرث البيروقراطي سيظل يشكل عقبة أمام التطور المطلوب؟
يقول أحمد، موظف حكومي منذ حوالي 20 عاماً “نذهب إلى العمل يومياً، لكن في كثير من الأحيان لا توجد مهام فعلية لإنجازها، الروتين القاتل يجعل العمل مملاً، والإجراءات المعقدة تعرقل أي محاولات للإصلاح.”
سياسات توظيف عشوائية
هذه المشكلة لم تنشأ بين ليلة وضحاها، بل هي نتيجة سياسات توظيف غير مدروسة امتدت لعقود، حيث تم توظيف الآلاف بناءً على اعتبارات سياسية واجتماعية، وليس وفق الاحتياجات الحقيقية للإدارة العامة.
في هذا السياق يؤكد الدكتور عبد المعين مفتاح، الخبير في الإدارة وإعادة هيكلة المؤسسات، أن الترهل الإداري هو أحد أكبر العوائق أمام أي إصلاح اقتصادي، موضحاً “أي اقتصاد تنافسي يحتاج إلى مؤسسات فعالة ومنتجة، ولا يمكن بناء اقتصاد حديث بمؤسسات تعاني من تضخم وظيفي وبيروقراطية خانقة، والحل يبدأ بإعادة هيكلة الجهاز الإداري ليصبح أكثر كفاءة ومرونة.”
هجرة العقول
وبين أن إحدى أكبر المشكلات التي تعاني منها المؤسسات الحكومية في سوريا هي تهميش الكفاءات، حيث يعتمد التوظيف والترقيات في كثير من الأحيان على معايير غير مهنية، مثل العلاقات الشخصية والانتماءات السياسية، بدلاً من الكفاءة والإنجازات.
وتشير الإحصائيات إلى أن 65% من خريجي الجامعات المتميزين يفضلون العمل في القطاع الخاص أو الهجرة إلى الخارج، بسبب ضعف الرواتب، وانعدام الحوافز، وتراجع التقدير الوظيفي.
يقول خالد، مهندس شاب يعمل في مؤسسة حكومية: “بعد سنوات من العمل الجاد، اكتشفت أن الترقيات لا تعتمد على الأداء، بل على العلاقات، هذا جعلني أفكر جدياً في البحث عن فرصة عمل خارج البلاد، حيث يمكنني تحقيق طموحاتي المهنية.”
احترام الكفاءات
يرى الدكتور عبد المعين مفتاح أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى خسارة سوريا لعدد كبير من العقول المتميزة، مما يعيق أي محاولة للنهوض الاقتصادي.
ويضيف: “الدول التي تحترم كفاءاتها تحقق قفزات اقتصادية هائلة، أما في سوريا، فهناك تجاهل واضح لأصحاب الخبرات، مما يدفعهم إلى الهجرة- إذا لم تُعتمد معايير شفافة وعادلة في التوظيف والترقيات، فستبقى المؤسسات الحكومية عاجزة عن تحقيق أي تطور.”
غياب التكنولوجيا والحوافز
تشير دراسة حديثة إلى أن 70% من الموظفين الحكوميين غير راضين عن بيئة العمل، حيث يعانون من نقص التجهيزات التقنية، وضعف الرواتب، وانعدام الحوافز.
يقول سامي- موظف في قطاع الخدمات العامة: “ما زلنا نستخدم الورق في معظم المعاملات، رغم أننا في عصر التكنولوجيا، غياب الأنظمة الالكترونية الحديثة يجعل العمل أكثر بطئا وتعقيدا، ويزيد من احتمالية حدوث أخطاء إدارية.”
ويعلّق د. مفتاح على رأي (الموظّف سامي): “لا يمكن تحقيق إنتاجية حقيقية من دون بيئة عمل محفزة، يجب التحوّل إلى نظام رقمي متكامل، مع تحديث الأجهزة والتقنيات المستخدمة. إضافة إلى ذلك، يجب تحسين الرواتب وربطها بالأداء لضمان تشجيع الموظفين على العمل الجاد.”
كيف يمكن إنقاذ المؤسسات الحكومية؟
مع دخول سوريا مرحلة الاقتصاد الحر، أصبح الإصلاح الإداري أمراً حتمياً لضمان قدرة المؤسسات الحكومية على التكيّف مع المتغيرات الجديدة.
هناك عدة خطوات ضرورية يمكن أن تساعد في بناء مؤسسات حكومية أكثر كفاءة ومرونة، بحسب د. مفتاح، منها:
أولاً: إعادة هيكلة الجهاز الإداري.. تقليص عدد الموظفين غير المنتجين، وإعادة توزيع المهام بشكل أكثر كفاءة لتحقيق أقصى استفادة من الموارد البشرية المتاحة.
ثانياً: اعتماد معايير أداء واضحة.. يجب أن يتم تقييم الموظفين بناء على الكفاءة والإنجازات الفعلية، وليس وفق الأقدمية أو العلاقات الشخصية.
ثالثاً: تحديث بيئة العمل.. يجب إدخال التكنولوجيا الحديثة في جميع القطاعات الحكومية، لتسريع الإجراءات وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
رابعاً: تحسين الرواتب والحوافز.. لا بد من ربط الرواتب بمستوى الأداء، بحيث يشعر الموظف بأن جهوده تُقدّر مادياً، مما يعزز الدافع للعمل الجاد.
خامساً: محاربة الفساد الإداري.. لا يمكن تحقيق إصلاح حقيقي دون القضاء على الفساد الإداري، وفرض رقابة صارمة لضمان تنفيذ الإصلاحات بفعالية- بحسب د. مفتاح الذي يرى أن “الاقتصاد السوري يحتاج إلى تحول جذري، ولن يتحقق ذلك دون مؤسسات حكومية قوية وفعالة، ودون اتخاذ قرارات جريئة لإصلاح الإدارة العامة، وإلا فقد تجد سوريا نفسها غير قادرة على مجاراة التحولات الاقتصادية العالمية.
الحلاق: لدينا مؤشرات عن حجم الفساد
عضو غرفة تجارة دمشق، رجل الأعمال محمد الحلاق قال: قد لا تكون هناك أرقام تشير إلى حجم الفساد، ولكن هناك مؤشرات، وطرح مثالاً توضيحياً: “عندما تنظر إلى موظف في الجمارك أو التموين أو في أي مؤسسة لا على التعيين، وأنت تعلم أنه لا دخل
له سوى راتبه، وتراه يحمل أحدث جهاز موبايل، ثمنه ٢٠ مليون ليرة، على أسعار ما قبل سقوط النظام المخلوع، فهذا مؤشر أو دليل على أنه لا يعيش على راتبه، ودليل على أن دخله الشهري لا يقلّ عن ٢٠٠ مليون ليرة حتى اشترى جهازا بقيمة ١٠ بالمائة من دخله، هذا إذا تناسينا هواتف أفراد أسرته.. هذه الظاهرة هي مؤشر على حجم الفساد”.
مثال آخر
واستشهد بمثال آخر: “في اجتماع حضرتُه بهيئة تخطيط الدولة، تم الحديث عن أنهم حاولوا التعامل بشفافية وباستقامة مع موظفين في إحدى مؤسسات القطاع العام، فقرروا منح كل موظف بتلك المؤسسة سلة غذائية وطلبوا منهم ألا يأخذ أي منهم أكثر من سلة واحدة في الشهر، ولكن تبيّن أن هناك ٣٥ إلى ٤٠ بالمائة من الموظفين أخذوا أكثر من مرة واحدة”!.
يتابع الحلاق: “حينها قلت لهم: هل نستطيع أن نعتبر ذلك مؤشراً على حجم الفساد، وأن نسبة الفساد هي بين ٣٥ – ٤٠ بالمائة”؟
وعطف قائلاً: “هذا الرقم متواضع، فأنا أعتقد أنه يتجاوز 50%”.
التهريب والبسطات
وطرح مثالاً ثالثاً عن أسعار المواد التموينية كالسكر والأرز والزيت.
وتساءل: “لماذا هي أغلى من أسعارها في دول الجوار بنسبة 30 – 40 %؟
لماذا تباع على البسطات عندنا بسعر أقل، رغم أن مستورد البلد المجاور يربح، وكذلك تاجر الجملة والتاجر العادي والمهرب، وصولا إلى بائع البسطة”؟.
ويجيب: “هذا مؤشر على الفساد وحجمه”.
غياب المحاسبة
وعن أسباب الترهل في مؤسسات الدولة، قال الحلاق: “يعود ذلك لأسباب كثيرة، منها أن التعيينات في مواقع المسؤولية كانت تتم وفق الإملاءات الأمنية، وعلاقات القرابة والتخادم النفعي المتبادل، يُضاف إلى ذلك غياب المحاسبة، حيث كانت تتم تغطية الفاسدين لتحقيق منافع خاصة، أي أن الفساد كان مغطى من الهرم إلى القاعدة”.
وأضاف: “تضارب التشريعات وعدم تناسقها لعب دورا في الترهل، كذلك محاربة الكفاءات، حيث كانت تتم محاربة كل من يريد الإصلاح، لأن الإصلاح يضر بمصالح الفاسدين في مستويات السلطة الأعلى”. موضّحا أنه “كان يتم الإبقاء على بعض الكفاءات التي لا يمكن الاستغناء، ولكن كانت تعمل بعيداً عن الأضواء”.
لا يوجد تقييم موضوعي
ومن أسباب الترهل أيضاً عدم وجود تقييم موضوعي للخطط بعد تنفيذها، وإذا تم التقييم، فإنه كان يتم بصورة مشوهة، وعدم وجود تقييم يحدد نقاط الضعف والقوة يعني الاستمرار بارتكاب الأخطاء وتكرارها.
أسباب عدم تحسين بيئة العمل
وعن أسباب عدم تحسين بيئة العمل بمؤسسات الدولة قال: “تحسين بيئة العمل يعني تحسين التشريعات، وتحسين التشريعات يعني تحسين الراتب، والحد الأدنى للراتب عندنا هو ٢٨٦ ألف ليرة، وما يزيد فوق هذا المبلغ يأخذون عليه ضرائب، هذا الوضع الفريد في نوعه كان يدفع الموظف للعمل بالحد الأدنى، وكان يدفعه إلى ممارسة الفساد والرشوى، وعدم الإحساس بالانتماء إلى مؤسسته”.
المدفأة والنافذة المفتوحة!
وطرح الحلاق مثالاً، “في أي مكتب أو أي مؤسسة يمكنك أن ترى الموظف يشغّل السخانة أو المدفأة الكهربائية في المكتب ويفتح الشباك”!.
وعلّق: “هذا يدلل على الفساد وعدم الانتماء للمؤسسة، بل حتى للبلد”.
وتابع: “تحسين بيئة العمل يكون عن طريق تحسين التشريعات ورفع الرواتب والأجور، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، والاهتمام بالتقييم الدقيق والترفيع الإداري الصحيح بوقته وبحسب الكفاءة.
لا بد من إعادة الهيكلة في مؤسسات الدولة، وإبقاء من يلزم للعمل فقط، ومن لا يلزم يتم البحث له عن عمل في مكان يقدم فيه خدمة”.
إعادة الهيكلة
لا بد من إعادة الهيكلة، ولكن يحتاج ذلك إلى وقت, بحسب الحلاق لمعرفة حاجات المؤسسات الفعلية للموظفين، ولمعرفة الكفوئين ونظيفي الكف.
فهو يرى أنه “عندما يقول ٤ من أصل ٥ أن فلاناً جيد فيمكن الأخذ بذلك، وعندما يعترف ٣ فقط من أصل ٥، فقد يفيد هنا الشك، وتوسيع دائرة البحث للوصول إلى اليقين”.
د. حجازي: ضياع في التشريعات والصلاحيات
عميد المعهد العالي للسكان الخبير التنموي- رئيس المرصد العمالي، الدكتور جمعة حجازي قال لـ”الثورة”: المشكلة الرئيسية في سوريا أن علمية الانتقال إلى الوظائف الإدارية في القطاع العام ضاعت في متاهات التعريف والمشاريع، مرة نقول: خدمة عامة، ومرة نقول: خدمة مدنية، ومرة: قطاع عام إنتاجي، وآخر خدمي، وآخر مدني، ومن ثم نتوه في مشكلة المصطلحات على أساس قانوني وحقوقي وإداري، وتتداخل الصلاحيات بين المؤسسات الرقابية والحزبية.
وأضاف: “نضع القوانين، ومن ثم يتم الاستثناء، ولا نلتزم بمعايير تقييم الأداء، وغالباً ما نعتمد مبدأ التجريب الذي أضر بالإدارة العامة في سوريا”.
أعراض المرض
يوضح د. حجازي أن هناك عوامل عديدة ساهمت بالترهل الإداري وعدم تحسين بيئة العمل وانتشار الفساد، منها:
أولاً: عوامل اقتصادية: تشير إليها الإحصاءات الرسمية (كالبطالة، التضخم، انخفاض الإنتاجية، ارتفاع تكاليف الإنتاج، انخفاض الاستثمار، انخفاض مستوى الدخل الفردي، سوء توزيع الدخل القومي…).
ثانياً: عوامل اجتماعية: تتمثل في انتشار بعض مظاهر الفساد من (رشوة، اختلاس، استغلال الوظيفة العامة، تبادل المنافع الخاصة…).
ثالثاً: عوامل ديموغرافية: تظهر في تزايد نسبة الهجرة الداخلية والخارجية، ارتفاع معدل نمو السكان، التمركز الشديد في مراكز المدن والعاصمة..).
وتابع: تضافرت العوامل السابقة مع انتشار الظواهر السلبية والأعراض المرضية الكلية – التي لا مجال سوى لاستعراض عناوينها مثل:
– مفارقات الرواتب والتعويضات
– طبيعة العلاقات بين القيادات السياسية وإدارات الجهاز الإداري، وتداخل الاختصاصات وازدواجيتها، إضافة إلى كثرة القوانين والتشريعات المعمول بها والتعديلات الجارية عليها، ولا ننسى بطء تأقلم الجهاز الإداري مع تطورات التقنية المادية، والعناية الجزئية بالتدريب والتأهيل.
يضاف إلى ما سبق: الهياكل التنظيمية المبنية على نظام التسلسل، وتعقيد إجراءات العمل وبطء حركة سيرها، إضافة إلى الميل الشديد لاقتناء الوسائل التقنية بصرف النظر عن الجدوى الاقتصادية الحقيقية.
#صحيفة_الثورة