الثورة – جهاد اصطيف وحسن العجيلي:
بعد 14 عاماً من مقارعة أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم، تمكن السوريون من انتزاع حريتهم، على الرغم من ذاكرتهم المثقلة بالمآسي التي خلفتها مجازر النظام البائد بحق السوريين.
استخدمت قوات النظام البائد جميع أنواع الأسلحة للقضاء عليها، لكن لم توقفها مجازر البيضا ولا التريمسة ولا الحولة ولا الغوطة الشرقية ولا داريا ولا خان شيخون، ولا غيرها من المجازر والمقابر الجماعية التي وثقتها عدسات الصحفيين وأقلامهم.
ورغم استخدام السلاح الكيماوي والتقليدي وصواريخ الطائرات الفراغية والارتجاجية والبالستية والبراميل المتفجرة، والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وتصفية المعتقلين في سجن صيدنايا والأفرع الأمنية، استمر السوريون في طريق ثورتهم حتى انتزعوا نصرهم في الثامن من كانون الأول الماضي.
مئات آلاف الضحايا والمعتقلين
وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 230 ألفاً و224 مدنياً بالاسم، بينهم 15ألفاً و272 قتلوا تحت التعذيب، واختفاء واعتقال 154 ألفاً و816 شخصاً، وتشريد قرابة 14 مليون سوري، خلال سنوات الثورة السورية.
وتشير تقارير صحفية إلى أن العدد الحقيقي للقتلى يزيد عن الرقم المذكور، إلا أن الشبكة السورية اعتمدت في توثيقها على اللوائح الاسمية للضحايا.
ذكرى تتجدد كل عام
خلال السنوات الأولى من عمر الثورة السورية كانت المظاهرات يومية في معظم المناطق السورية، هتف خلالها المتظاهرون بالحرية وإسقاط النظام، وفي كل مناسبة يؤكد المتظاهرون على تمسكهم بمطالبهم التي تصاعدت بوتيرة عالية.
استمرت جذوة الثورة السورية بالتوسع والامتداد على الأراضي السورية، حتى باتت ذكرى انطلاقها في 15 – 18 آذار مناسبة لتجدد مطالب السوريين، وتجديداً للعهد الذي قطعوه.
البدايات
انطلقت بشكل عفوي الاحتجاجات الشعبية في سوريا، قبل نحو ” 14 ” عاماً، كرد فعل على ممارسات النظام البائد المتراكمة.
وبدأت أولى الاحتجاجات الشعبية في سوريا بمظاهرة سوق الحميدية وسط العاصمة السورية دمشق في 15 آذار 2011.
في ذلك اليوم، تجمع العشرات من المواطنين والتجار في السوق الحيوي المعروف ونددوا باعتداء القوى الأمنية على أحد التجار.
خلال المظاهرة، أطلق المحتجون صيحات تنادي بالحرية، رافضين حالة الكبت التي عاشتها سوريا لعقود طويلة، متأثرين برياح التغيير التي هبت على المنطقة.
ملامح ثورية
بعد حادثة السوق ظهرت كتابات على جدران مدينة درعا تطالب الرئيس المخلوع بالرحيل، فأوقفت مخابرات النظام وقواته الأمنية عدداً من المشتبه بهم وكانوا في الأغلب من الأطفال والفتيان الذين لم يتجاوزا السن القانوني بعد.
إثر ذلك، استفز أمن النظام المخلوع وجهاء المحافظة عندما فاوضوا على إطلاق سراح الموقوفين، ووجهوا إليهم إهانات لتكون الشرارة التي أشعلت المحافظة بمظاهرات عديدة اعتباراً من 18 آذار.
تضامن السوريون في باقي المحافظات مع احتجاجات درعا، خاصة في حمص وإدلب وريف دمشق.
التنسيقيات
اعتمد النظام المخلوع منذ البداية الحل الأمني لإيقاف المظاهرات، ولم يتردد حتى في إطلاق النار المباشر عليهم
ومع سقوط أول ضحايا الاحتجاجات برصاص قوات الأمن في محافظتي درعا وحمص اندفع المتظاهرون الغاضبون لرفع سقف المطالب والانتقال من المناداة بالإصلاح وتوسيع الحريات إلى إسقاط النظام.
وبعد أشهر قليلة ظهرت فئة من النشطاء سرعان ما تحولت إلى لجان التنسيق المحلية أو ما كانت تعرف باسم ” تنسيقيات الثورة ” على أثر استمرار المظاهرات العفوية.
انتظمت تلك التنسيقيات بشكل أكبر ضمن جسم واحد تحت اسم الاتحاد الذي أصدر بيانه الأول في حزيران 2011، وأصبح مسؤولاً عن تحديد أيام الجمعة موعداً للخروج في المظاهرات لاستغلال التجمعات الشعبية في المساجد، بالإضافة إلى صياغة شعارات كل أسبوع.
أحداث متسارعة.. وانشقاقات
بعد نحو شهرين على انطلاق المظاهرات انتقلت لجان التنسيق إلى مرحلة الاعتصامات الكبيرة في ساحات المحافظات العامة.
واتفقت لجان التنسيق في محافظة إدلب على التوجه إلى ساحة المحافظة في 20 أيار 2011 ضمن أحد أيام الجمعة التي أطلق عليها المنسقون اسم “جمعة الحرية” ضمت مختلف المكونات السورية.
تعرض المتظاهرون لإطلاق نار يعتقد أن مصدره معسكر المسطومة قبل مدخل مدينة إدلب الغربي، ما أدى إلى مقتل 8 متظاهرين وجرح عدد آخر وانشقاق بعض عناصر القوات الأمنية التي استنكرت الفعل.
بعد حادثة معسكر المسطومة عاد المتظاهرون الغاضبون إلى مدن وبلدات إدلب واستولوا على أسلحة خفيفة بعد اقتحامهم مخافر الشرطة وأفرع حزب البعث “المنحل”.
أحداث أمنية متفرقة سارعت الأحداث ودفعت عدداً من عناصر الجيش وضباطه للانشقاق نتيجة رفضهم للممارسات وعمليات القمع ضد المحتجين والمدنيين.
العناصر والضباط المنشقون أعلنوا تشكيل “حركة الضباط الأحرار” بقيادة المقدم المنشق حسين هرموش الذي تمكنت قوات النظام الأمنية من اعتقاله، ومن ثم اختفائه، حيث يشير ناشطون إلى ظهور صورة جثته ضمن صور “قيصر”.
أُعلن لاحقاً تأسيس “الجيش السوري الحر” في شهر تموز من العام 2011 بقيادة العقيد رياض الأسعد.
ومنذ الأشهر الأولى للاحتجاجات تدخلت إيران إلى جانب النظام البائد، وفق تقارير صحفية، عبر الزج بمقاتلين أجانب، إلى جانب عناصر من حزب الله اللبناني، والذين سيطروا لاحقاً على عدد من المناطق السورية في حمص وريف دمشق.
كادت تحسم لولا تدخل الروس
في الأعوام القليلة التي تلت انطلاق الثورة، ومع التطورات أصبحت الفصائل العسكرية المعارضة للنظام البائد أكثر تنظيما وتأثيراً على بلورة هيكلية الفصائل التابعة للمعارضة السورية المسلحة.
ورغم جملة الأحداث التي أثرت بشكل بالغ على واقع هذه الفصائل سلباً وإيجاباً، خاصة في العام 2014 ومحاربة “تنظيم الدولة”، وظهور التحالف الدولي، إلا أن المعارضة تمكنت من الاستحواذ على مساحات واسعة من الأراضي السورية.
كادت تلك الفصائل المسلحة أن تشارف على حسم الحرب لصالحها في مطلع عام 2015 عندما شنت فصائلها في ريف دمشق ومحافظة إدلب هجوماً متزامنا على مواقع النظام البائد في دمشق وإدلب.
نتجت عن تلك المواجهات السيطرة بشكل شبه كامل على محافظة إدلب والوصول إلى مشارف محافظة اللاذقية.
وهددت المعارضة سيطرة النظام على العاصمة دمشق، ما دفع روسيا إلى اتخاذ قرار التدخل العسكري المباشر في أيلول 2015.
أرسلت روسيا أسراب طائرات حربية ومستشارين عسكريين لمساندة النظام السوري ومجموعاته المسلحة المدعومة من إيران، وأسست قاعدة جوية في حميميم بريف اللاذقية وأخرى بحرية في طرطوس.
مغادرة الفصائل.. مؤقتاً
ورغم الاتفاق الروسي – الأميركي في شباط 2016، وتقسيم السيطرة على الأجواء السورية إلى غرب نهر الفرات وشرقه، إلا أنه مهد الأجواء لقيادة روسيا عمليات عسكرية عدة ضد المعارضة السورية، لتستهدف تقويض سيطرة المعارضة على أحياء مدينة حلب الشرقية، وانتهت بمغادرة الأهالي الرافضين لحكم الأسد والفصائل المعارضة هذه الأحياء في كانون الأول 2016، تحت ضغط الغارات الجوية والمجازر بحق المدنيين، لتبدأ بعدها رحلة اجتماعات ” أستانا ” لخفض التصعيد بمشاركة تركيا وروسيا وإيران.
وانتشرت بموجبه نقاط مراقبة للدول الضامنة داخل الشمال السوري وفي محيطه، خاصة تركيا التي دفعت بآلاف الجنود إلى الشمال السوري.
بعد ذلك ونتيجة لحصار خانق لمناطق الغوطة الشرقية، وإثر استهداف المنطقة بالسلاح الكيماوي والذي أوقع آلاف الضحايا المدنيين أفضت تفاهمات دولية إلى تهجير من يرغب من المعارضين مع عناصر الفصائل المسلحة إلى الشمال السوري.
وفي عام 2018 أتيح المجال أمام سيطرة النظام البائد على محافظتي درعا والقنيطرة بموجب تعهدات روسية بمنع نشاط الفصائل الإيرانية قرب هضبة الجولان المحتلة.
ومع اتفاق تسوية 2018، سمحت قوات النظام البائد أيضاً لمن يريد المغادرة من المدنيين وعناصر الفصائل المسلحة من درعا باتجاه الشمال السوري، وبقاء من يرغب مع تسليمه السلاح الثقيل.
في أيار 2019، شنت روسيا معركة واسعة في إدلب، سيطرت من خلالها على مساحة جغرافية واسعة من ريف حماة وجنوب إدلب.
لقيت الحملة مواجهة من قبل الفصائل المتواجدة في المنطقة، وبعد استهداف مباشر للمدنيين والمنشآت العامة والبنية التحتية توقفت الحملة بتفاهمات روسية – تركية.
وخلال تواجد قوات النظام البائد في مناطق ريف إدلب الجنوبي، عمدت إلى تخريب ما بقي عامراً من منازل المنطقة، عبر سحب حديد الأسقف وسرقة أثاث المنازل وبيعه بالخردة، في مشهد جديد من الإجرام.
وبحسب ما وثقه صحفيون وناشطون، لاحقاً، أظهرت الصور مواقع تمركز للقوات الإيرانية وحزب الله في تلك المناطق، كانت تقود عمليات القصف على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام البائد.
بزوغ فجر الحرية.. 8 كانون الأول
أفرزت تلك الأحداث وغيرها، من حيث انقسام مناطق السيطرة بين قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، وفصائل الجيش الوطني السوري، والنظام المخلوع، في ظل ثبات لخطوط الاشتباك وجمود المفاوضات السياسية.
خلال الفترة الممتدة بين 2020 و 2025 استمرت كل من روسيا وقوات النظام البائد والمجموعات المسلحة التابعة له، و”حزب الله” ومجموعات إيران باستهداف المدنيين في مناطق إدلب وريف حلب بالصواريخ والقذائف وصواريخ الطائرات الحربية.
ولم تتوقف تلك القوات عن ارتكاب المجازر بحق المدنيين، والتي تطورت لاحقاً باستهداف المناطق المحاذية لسيطرتها بالطائرات المسيرة التي تلاحق المدنيين في قراهم وحقولهم الزراعية.
ومع تكثيف تلك الهجمات على نطاق واسع، انطلقت العملية العسكرية التي حملت اسم “ردع العدوان” بقيادة “هيئة تحرير الشام” ومشاركة الفصائل العسكرية والتي أفضت إلى السيطرة على مدينة حلب.
وتحت ضربات مقاتلي المعارضة وفرار قوات النظام البائد، تراجعت قواته إلى حماة ثم حمص والتي انتهت بالسيطرة على العاصمة دمشق وهروب رأس النظام البائد إلى روسيا تاركاً مصير مقاتليه ومن سانده 14 عاماً دون الاكتراث لهم.
وفي فجر الثامن من كانون الأول لعام 2024 أُعلن خلاص سوريا من نظام ديكتاتوري دام لأكثر من خمسة عقود ونيف، لتتوج مسيرة طويلة من التضحيات التي قدمها السوريون طيلة سنوات الثورة السورية، وبدء مرحلة جديدة، يأمل الشعب السوريون أن يكون شعارها البناء والإعمار والحرية وكرامة الإنسان، مع تشديدهم على “العدالة الانتقالية” ومحاكمة المجرمين بحق الشعب السوري.