الزراعة والصناعات الزراعية حامل التنمية الذكية.. ترتيب الأولويات من أهم التحديات التي يواجهها اقتصادنا
الثورة – تحقيق هلال عون:
تتابع صحيفة الثورة في الجزء الثاني من التحقيق الصحفي ملف التحوُّل إلى اقتصاد السوق الحر التنافسي.
وللاستفادة من تجارب الماضي، وعدم تكرار الأخطاء كان الجزء الأول (الذي تم نشره يوم أمس، وهذا رابطه لمن يرغب بالعودة إليه )
كان، خاصا بأسباب فشل تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي التي انتهجتها حكومات النظام المخلوع في الخطة الخمسية العاشرة عام 2005 .
ونطّلع في هذا الجزء على آراء واقتراحات الخبراء الاقتصاديين بخصوص مستقبل اقتصادنا الحر التنافسي.. لنتابع معا:
لا للضياع بالنظريات الاقتصادية
المستشار والخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش يؤكّد أن النهج الاقتصادي الذي تتّبعه أي دولة ليس معادلة رياضية خطية جاهزة للتطبيق بقدر ما هو منظومة مجتمعية متكاملة لها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتشكل وتتبلور في سياقها التاريخي التفاعلي، وبتوافق بين كل المكونات والقوى الفاعلة في المجتمع.
وتتجاوز المنظومة هوية الاقتصاد السوري إلى مسألة الانفتاح الاقتصادي وتوزيع الأدوار وأشكال الدعم والاستثمار والإصلاح الاقتصادي والإداري والفساد وغيرها الكثير.
ترتيب الأولويات
ويتابع: يجب إعادة تموضع النظام الاقتصادي، ولا نعتقد أنه من المفيد الضياع بالنظريات الاقتصادية والنماذج والتجارب الاقتصادية المختلفة لدول تماثلنا أو تتباين عنا.
وقد يكون صحيحاً أن التسميات ليست أولوية، لكن ترتيب الأولويات من أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد السوري في مرحلة إعادة البناء والإعمار.
ويضيف د. عياش:
“أعتقد بضرورة ترتيب الأولويات وفق التصور التالي:
ضرورة تحديد هوية الاقتصاد السوري بشكل واضح لا يقبل التأويل في دستور الجمهورية العربية السورية”.
التشبيك الذكي
وقال: أقترح أسلوب ” اقتصاد التشبيك الذكي” الذي يحافظ على المركزية الاستراتيجية، مع تفعيل مفاهيم الإدارة المحلية، ومفهوم التنمية المحلية على مستوى المحافظات والوحدات التنظيمية من خلال تعزيز مساهمة المجتمع الأهلي.
وأوضح أن المقصود بالتشبيك هو الترابط والتداخل والتناغم والمرونة، بتزامن.
وشبَّه الأمر بقماش البروكار الدمشقي “الداماسكو” المشهور عالمياً بنعومته ومتانته ومرونته وجماله الفائق.
عناصر التشبيك
وعن عناصر التشبيك قال: هي:
أولا: التشبيك على المستوى الاجتماعي بين كافة مكونات المجتمع السوري.
ثانيا: التشبيك على المستوى الاقتصادي بين قطاعات الاقتصاد (عام، خاص، تعاوني، تشاركي..) ومكوناته (الإنتاجي، الخدمي، الفكري).
ثالثا: التشبيك على المستوى الجغرافي بين مختلف المحافظات والمناطق التي تحددها الجغرافيا السورية.
رابعا: التشبيك الإقليمي مع الاقتصادات المحيطة والتقليدية.
خامسا: التشبيك مع الاقتصاد العالمي كبديل عن الانفتاح الاقتصادي وتفادي سلبياته.
مصطلح الذكي
وبيَّن أن المقصود بمصطلح الذكي هو الفاعلية والكفاءة، والقدرة على القيام بالأعمال الصحيحة بطريقة صحيحة.
ومصدر المصطلح هو هدف الاقتصاد الرئيس في تحقيق التنمية، حيث لم يعد يُتداول في الأدبيات الاقتصادية مفاهيم كالتنمية الشاملة أو المتوازنة أو المتوازية أوالمستدامة وغيرها، بل نشأ حالياً مصطلح ” التنمية الذكية ” ليحل ويشمل كافة مفاهيم التنمية السابقة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
حامل التنمية الذكية
يرى د. عياش أن الزراعة والصناعات الزراعية هي حامل التنمية الذكية “الشاملة والمتوازنة والمستدامة” في سوريا. حيث يحقق القطاع الزراعي المزايا التالية:
أولاً: القدرة العالية للتعافي وسرعة الإنتاج، وتتوافر كل المزايا النسبية في قطاع الزراعة، والفرصة متاحة لتحويلها إلى مزايا تنافسية تساهم في دعم الجاهزية التنافسية للاقتصاد السوري وتحقيق قيم مضافة عالية من خلال التصنيع والتصدير للمنتجات الزراعية المصنعة.
ثانياً: القدرة العالية للتشبيك بين قطاع الزراعة والقطاعات الأخرى، ولاسيما الصناعة والنقل والتجارة الخارجية والبحوث وغيرها، من خلال مفهوم العناقيد الصناعية على مستوى مدخلات ومتطلبات الإنتاج الزراعي وعلى مستوى مخرجات الإنتاج الزراعي بكل أشكاله.
تعد أهم مكون لمفهوم الأمن الغذائي والمائي، وهما من ركائز الأمن الوطني وتمكين الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
التشاركية الاقتصادية
و دعا عياش إلى ضرورة التشاركية الاقتصادية بين كل مكونات وموارد الاقتصاد السوري. (مع التذكير أن التشاركية لا تعني المشاركة ولا تعني الخصخصة وتستهدف جذب وتوجيه الاستثمارات المحلية، وعلى وجه الخصوص الخارجية منها في خدمة التنمية الذكية).
وبين أن المشاريع الوطنية الصغيرة والمتوسطة هي رافع التنمية الأساسي خلال مرحلة إعادة البناء والإعمار، حيث يطغى على الاقتصاد السوري نمط الشركات الصغيرة والمتناهية في الصغر التي بلغت مساهمتها قرابة 30% من الناتج المحلي الإجمالي، داعيا في الوقت ذاته إلى إعادة النظر بكافة الاتفاقيات التجارية وتطبيق سياسات وإجراءات حمائية (ذكية) عالية للمنتجات السورية المحلية التي تحقق قيمة مضافة عالية.
السياسات الحمائية الذكية
وشدَّد د. عياش على ضرورة إعادة التوجيه والعودة إلى السياسات الحمائية، لكن (الذكية) للطاقات الإنتاجية السورية، ولاسيما في فترة إعادة الإعمار، وذلك من خلال:
أولاً: فرض الرسوم الجمركية والمعيقات الضريبية المؤثرة على كل المنتجات الأجنبية المنافسة للمنتجات المحلية.
ثانياً: تحديد ضوابط عالية لمعايير الجودة ومواصفات المنتجات المحلية.
ثالثاً: تقديم الدعم المباشر واللا محدود للطاقات الإنتاجية، (لكن الدعم الموجه للمنتج النهائي والمنتج المعد للتصدير، وليس لمدخلات الإنتاج كلما أمكن ذلك).
رابعاً: إعادة توجيه القطاع المصرفي للقيام بدوره الأساسي في تمويل الاستثمارات الإنتاجية لاسيما المشاريع الصغيرة والمتوسطة عوضاً عن الادخار والخدمات المصرفية الهامشية.
شبكة دعم اجتماعي
أما مدير غرفة تجارة دمشق الدكتور عامر خربوطلي، فيرى أنه تم اعتماد اقتصاد السوق الحر من قبل الحكومة المؤقتة، وأن هذا الاقتصاد حقق نجاحاً لجهة التخلص من القيود والعراقيل التي كانت تقف في وجه انطلاقته، وذلك على مستوى التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً وتنافساً وتحريراً للأسعار ، إن كان على مستوى المستهلك أو المستثمر أو على مستوى التجارة عموماً.
ويتابع: اليوم أصبح هناك اقتصاد سوق حر يحتاج إلى شبكة دعم اجتماعي وإلى وسائل لدعم المجتمع السوري من ناحية الخدمات والتعليم والصحة لضمان حقوق ضعيفي الدخل خلال عملية التحول إلى السوق الحر الذي كان ناجحاً ما بين فترة الاستقلال والوحدة مع مصر، حيث كانت مرحلة ناجحة جداً في هذا المجال حين تم إنشاء الشركات الصناعية المساهمة الكبرى وتشجيع المبادرة الفردية وإقامة المشروعات الصغيرة والأسرية ومتناهية الصغر على امتداد الجغرافيا السورية وكانت مدعومة بتشريعات وأنظمة حققت خلالها سوريا طفرة كبيرة على مستوى الاقتصاد.
رأي مختلف
ويختلف الباحث الدكتور عابد فضلية مع الدكتور خربوطلي، ويقول:
“من المبالغة القول: إننا في طور التحول إلى اقتصاد السوق الحر، فنحن وكما صرّح أحد المسؤولين الحكوميين في طور النوايا، حيث إن هذا التحول يتطلب عدة سنوات من التغيير الاقتصادي الهيكلي، يسبقه فكر جديد متوازن وثقافة وفلسفة جديدة تنسجم مع الفكر الليبرالي الذي يتطلب بدوره تغييرا جذريا في المنظومة التشريعية وفي بعض المناهج التدريسية، مروراً بخصخصة أو حل القطاع العام.
كل ذلك يتطلب فكرا سياسيا وعقائديا لشريحة واسعة من موظفي القطاع الحكومي تشريعيا وإجرائيا وتنفيذيا.
شروط لا بدّ منها
وعن أهم الشروط والمتطلبات الحاسمة للتحول إلى اقتصاد السوق الحر واقتصاد السوق الاجتماعي يرى د. فضلية أنها تتمثّل بتقوية الأسواق ومتوسط الدخل والتجارة الخارجية استيرادا وتصديرا والتركيز على القطاع الزراعي وقطاع الصناعة التحويلية التي تعتمد في إنتاجها على مخرجات القطاع الزراعي وتلك التي تستخدم مخرجاتها الصناعية كمدخلات لهذا القطاع، فنحن نمتلك كافة عوامل الإنتاج الأربعة للنجاح، من يد عاملة ومنظمين وموارد طبيعية ورأس المال اللازم (المنخفض نسبياً).
اقتصاد سوق مرن
ويختم.. في المحصلة يمكن القول: إنه لا يوجد اقتصاد سوق حر في أي دولة في العالم، بل اقتصاد سوق رأسمالي ذو جانب اجتماعي قوي تقوم الدولة بفرض تشريعاته، وبالتالي فالنهج الأمثل لسوريا هو اقتصاد سوق مرن تتدخل الدولة فيه كجهة تشريعية تنظيمية رقابية وتكون فيه التنظيمات الشعبية والخيرية بأنظمة وتشريعات.