الثورة – قصة هلال عون:
في قرية هادئة بريفنا السوري الجميل، تعيش العجوز “أم محمود” البالغة من العمر ثمانين عاماً، في بيت واسع تحيط به حديقة، تتجاوز مساحتها ٤٠٠ متر، مزروعة بعدد من أشجار الليمون والرمان، وبعض شتلات الخس والنعنع والبصل والبندورة.. وفيها شبك معدني، ارتفاعه نحو مترين، فيه قنٌّ كبير للدجاج.
قبل حوالى ١٠ سنوات توفي زوجها أبو محمود، ومنذ ذلك الحين حاول ابنها الوحيد محمود، الذي يسكن في العاصمة، أكثر من مرّة إقناعها بالذهاب للعيش معه في دمشق، لكن من دون جدوى.
في زيارته الأخيرة لها، وكان قد أصبح وزيراً في الحكومة، قال: “هذا القن وهذه الدجاجات لا داعي لها يا أمي، “أنا أرسل لك 100 بيضة بالشهر”.. لم يكد يكمل عبارته الأخيرة حتى دخل طفل في السابعة من عمره اسمه “إبراهيم”، وهو من أبناء الجيران، وبيده صحن فيه فاصولياء مطبوخة، وقال: مرحبا ستّي.. تفضلي.. ووضع الصحن أمامها على طاولة صغيرة، لكن صوت ابنها “محمود”، جعله يحمل الصحن من جديد ويعود به، وقد اصطبغ وجهُهُ حمرةً!! إذ قال له: تعال يا ولد خُذْ الصحن، وقل لأمك أن أم الوزير ليست بحاجة طعامك..!.
حدث كل ذلك، وأم محمود تستمع وتشاهد من دون أن تنطق بكلمة، وبعد دقيقة صمت نظرت إلى ابنها وقالت: انتبه يا محمود، عندي 70 بيضة بالأسبوع.. و”أنت تعرف أن الدكتور قال لي لا تأكلي أكتر من ٣ بيضات بالأسبوع.. يعني أنا أوزّع أكثر من 67 بيضة بالأسبوع لجيراني.. وكل يوم يزورني إبراهيم وهادي وميشيل، يجلسون عندي ويحكوا لي عن المدرسة وعن المعلمات وعن أصدقائهم ويقروا أناشيد وأغان حلوة تعلموها بالمدرسة.. أنا يا ابني أعطيهم بيضاً وخساً وبصلاً وبندورة، وليموناً ورماناً.. هؤلاء الأولاد أصدقائي.. لا تعرف كم أحبهم ويحبونني”..
“أتعرف يا بني، إذا يوم من الأيام، أهلهم عملوا طبخة طيبة ونسوني، هؤلاء الأطفال أصدقائي يذكروهم فيي.. ولا يأكلوا حتى يرسلوا لي الطعام. صحيح يا بني أنا لست بحاجة الدجاجات، لكن بسببهم أنا أصحو الصبح نشيطة، ومبسوطة لأن عندي شغل.. أفتح باب القن وأطعمهم.. وأقضي وقتاً معهم، وأسعد عندما أرى شتلات الخس والبصل يكبروا.. أقطف منهم وأعطي للجيران”.
نظرَتْ العجوز في عينَي ابنها محمود قليلاً من دون كلام، ثم أخذت بيده كأنه طفل صغير، ونهضت واقفةً، تشده خلفها! سألها: إلى أين يا أمي؟! قالت بثقة: إلى بيت “إبراهيم” وأهله نعتذر منهم.