فراس علاوي كاتب وصحفي سوري:
تاريخياً شهدت المنطقة الجغرافية الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج وآسيا الصغرى ( العمق التركي) ساحةً للصراع بين القوى والمشاريع الإقليمية والدولية، هذا الصراع وعلى مدى عقود شكل خارطة النفوذ في الشرق الأوسط، إذ تتصارع أربعة مشاريع نفوذ في المنطقة تصعد وتتراجع حسب طبيعة الصراع ومقوماته، (هذه المشاريع هي المشروع العربي، المشروع التركي، المشروع الإيراني، وهي مشاريع تاريخية يمتد الصراع بينها إلى عقود طويلة، وشهدت صعوداً وتراجعاً لهذه المشاريع، ) تلا ذلك ظهور المشروع ( الإسرائيلي) كمشروع توسعي ما غيّر قواعد الصراع في المنطقة، حيث شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية أعادت رسم معالم النفوذ في الشرق الأوسط.
إذ وبعد صراع استمر منذ انتصار ما سمي الثورة الاسلامية في إيران، تلاه وصول حزب العدالة والتنمية التركي للحكم وبروز ملامح مشروع تركي جديد ( تبنى الطورانية كهدف واضح عبر التوسع الاقليمي باستخدام القوى الناعمة والصلبة)، بدأ مؤخراً تراجع المشروع الإيراني بشكل سريع ودراماتيكي، إذ مارست القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة ضغوطاً اقتصادية وسياسية وعسكرية، هذا الانهيار الذي تلى توسعاً سابقاً للمشروع الإيراني على حساب المحيط العربي، حيث سيطرت على أربع عواصم عربية، شكَل فراغاً واضحاً واختلالاً في ميزان القوى المسيطرة، ما دفع كلاً من تركيا وإسرائيل لملْ هذا الفراغ ، ما أدى إلى بروز صراع تركي-إسرائيلي الهدف منه ملء الفراغ الذي تركه هذا التراجع، ما يعيد إلى الأذهان التنافس التاريخي الاوربي على إرث الدولة العثمانية، المعروفة تاريخياً بـ”الرجل المريض”.
انحسار النفوذ الإيراني:
بنت إيران مشروعها على توسيع نفوذها ضمن محيطها الجغرافي باستخدام القوى العسكرية والاقتصادية، واستخدام اذرعها الاجتماعية، لاحقاً وبسبب طبيعة الصراع عانت إيران من ضغوط هائلة أضعفت قدرتها على توسيع مشروعها الإقليمي القائم على دعم الميليشيات وتمكين الحلفاء المحليين.
بدأ هذا التراجع بعملية اغتيال قاسم سليماني مطلع 2020 أحد أبرز قادة المشروع الإيراني في المنطقة، تلاه عملية تفتيت لهذا المشروع عبر ضربات موجعة أضعفت منظومتها الأمنية والاستخباراتية، تزامن ذلك مع العقوبات الاقتصادية التي شلّت اقتصادها وأثّرت على تمويل أذرعها العسكرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
كذلك ساهمت الاحتجاجات الداخلية المتزايدة والمتراكمة إضافة إلى نشاط المعارضة الإيرانية إلى انكفاء طهران نحو الداخل، ما قلّص هامش مناورتها في الإقليم.
الضربات التي تلقتها أذرع إيران في سوريا ساهمت بشكل كبير في تراجع نفوذها، بعد أن كانت أبرز الفاعلين العسكريين منذ 2011، بذات الوقت تراجع التحالف الروسي الإيراني في سوريا، ما يؤكد فرضية التحالف الهش بينهما بسبب صراع المصالح والنفوذ، حيث زادت روسيا من انفتاحها على تركيا وإسرائيل والعالم العربي.
في العراق، أصبحت الميليشيات الموالية لإيران هدفاً لعمليات إسرائيلية محتملة وقائمة، كما شهدت حراكاً شعبياً مناهضاً لدور إيران في العراق ( ماسمي ثورة تشرين) ترافق ذلك مع صعود تيارات شبابية وطنية غير مرتبطة بإيران، ذراع إيران الأبرز في لبنان، “حزب الله” تمت تصفية كبار قادته خاصة أمينه العام حسن نصر الله، ما أدى إلى تراجع نفوذه وقوته العسكرية بعد الضربات التي تلقاها، وتراجع الدعم الشعبي العربي له بعد تدخله في سوريا دعماً لنظام الأسد.
في اليمن شهدت المنطقة تصعيداً ضدّ ذراع إيران الآخر( جماعة الحوثي) والتي أصبحت هدفاً للعمليات الأمريكية والأوربية حيث تصاعدت مؤخراً بشكل ملحوظ، ما يزيد من احتمالية تغيير الوضع على الأرض، وبالتالي إبعاد إيران عن منطقة استراتيجية مهمة ضمن سياسة تقطيع أوصالها وضربها في العمق لاحقاً.
تركيا وإسرائيل: تنافس على ملء الفراغ
في ظلّ هذا الانكفاء والتراجع الإيراني، بدأت تركيا وإسرائيل تعملان كمحورين رئيسيين( مشروعين تنافسيين) يتنافسان على توسيع حضورهما وزيادة النفوذ في المنطقة، حيث تسعى كل منهما إلى تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري، وإن كان ذلك بآليات مختلفة.
تركيا: الدور الإقليمي الجديد منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، تبنّت أنقرة استراتيجية توسعية تعتمد على القوة الناعمة عبر الاقتصاد والاستثمار، والقوة الصلبة عبر التدخلات العسكرية، كما هو الحال في شمال سوريا وليبيا وأذربيجان، وتسعى تركيا إلى تقديم نفسها كقوة إقليمية مؤثرة قادرة على موازنة النفوذ الإسرائيلي، خاصة في الملف الفلسطيني، حيث تحاول لعب دور داعم لحركة “حماس” مع الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع تل أبيب.
“إسرائيل”: الهيمنة الأمنية والتقنية بالمقابل، تركز “إسرائيل” على تكريس تفوقها العسكري والتكنولوجي، لاسيما في مجال الطائرات المسيّرة والتكنولوجيا السيبرانية، مع تعزيز تحالفاتها مع الدول العربية عبر مشاريع سلام مقترحة ومدعومة أميركياً( السلام الإبراهيمي)، كما تجلى في اتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب. وبالتوازي مع ذلك، تصعّد تل أبيب ضرباتها في سوريا، في محاولة لفرض قواعد اشتباك جديدة تمنع أي تموضع طويل الأمد لأي قوى إقليمية.
هل يتحوّل التنافس إلى مواجهة مباشرة؟
رغم التباين في الأدوات التي يقوم عليها المشروعان التركي والإسرائيلي، فإن التنافس بين تركيا و”إسرائيل” قد يتحوّل إلى صراع مباشر في حال تداخلت المصالح، لاسيما في ملفات شرق المتوسط والحدود السورية والفلسطينية. فمن جهة، يثير التقارب الإسرائيلي-اليوناني-القبرصي حساسية أنقرة، التي تعتبر نفسها القوة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط. ومن جهة أخرى، يشكل الدعم التركي، للحكومة السورية والحديث عن إقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا، والدعم السياسي لحركات المقاومة الفلسطينية مصدر قلق دائم لـ”إسرائيل”، رغم حرص الجانبين على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة.
لعل سؤال اللحظة أو ما يسمى سؤال المليون: من يظفر بالإرث؟
مع انحسار النفوذ الإيراني، تدخل المنطقة مرحلة جديدة من التنافس بين قوى إقليمية صاعدة تسعى إلى فرض حضورها، ورغم أن الصراع التركي-الإسرائيلي لا يزال في إطار التنافس الجيوسياسي وليس المواجهة المباشرة، فإن تداخل المصالح والنفوذ قد يجعله أكثر احتداماً مستقبلاً، في مشهد يعيد إلى الأذهان صراع القوى على إرث “الرجل المريض” في بدايات القرن العشرين.