الثورة- ترجمة هبه علي
على مدى 54 عاماً عاشت سوريا في ظلّ صمت عميق، ابتلع حياة بأكملها، فازدهر نظام الأسد بمحو الذاكرة، لم تكن حالات الاختفاء القسري والدعاية والعنف مجرد أدوات للسيطرة؛ بل كانت أسلحةً تهدف إلى طمس الماضي، وقيل: إن المظاهرات المناهضة للنظام أخبارٌ كاذبة، وأصبح المدنيون الأبرياء المختطفون أو القتلى “إرهابيين”، وقلبت شبكة المخبرين الواسعة للنظام، المعروفة باسم المخابرات – جهازه الاستخباراتي – الجار على جاره، ما جعل السوريون يخشون ليس النظام فحسب، بل بعضهم البعض أيضاً.
وساد الاعتقاد على نطاق واسع بأن الهواتف متنصت عليها، وأن أي كلمة غير مبالية قد تؤدي إلى اختطاف في منتصف الليل، وكثيرا ما كانت المحادثات حذرة ومتكلفة، ودون وسيلة للتعبير عما يدور حولنا، عاش السوريون في حالة دائمة من فقدان الذاكرة التاريخية، وأصبح الخوف لغة وطنية، وكان النسيان شكلاً من أشكال الحماية.نشأتُ في سوريا، أتذكر أن والدي، عندما كنت طفلاً، وبخ أخي لإخباره أصدقائه أن حافظ الأسد سجن أعمامي، وعندما تولى ابنه بشار الأسد زمام إمبراطورية والده الظالمة، كان هناك أمل في أن يكون مختلفاً؛ لكنّه لم يكن كذلك، ولكن عندما اندلعت الثورة السورية بالتزامن مع سنوات مراهقتي المتمردة، بدأ بعض السوريين يروون قصصهم الخاصة، تلك التي لم يرغب النظام في أن نحكيها، انضممتُ إلى الحركة وساعدتُ في نشر الوعي حول الاحتجاجات والمظاهرات، وبحلول الوقت الذي بلغتُ فيه السابعة عشرة من عمري، فررتُ من سوريا دون عائلتي، خوفاً من المخابرات، وعندما وصلتُ إلى الولايات المتحدة، لم يكن سرد قصة سوريا أسهل: فقد أصبح بلدي موضوعاً للحقائق البديلة والمعلومات المضللة، شعرتُ بثقل الصمت في الوطن في كلّ مكالمة مع عائلتي، لقد أصبحوا خبراء في استخدام الكلمات المشفرة للتلميح إلى ما يشهدونه يومياً بينما مزقت الحرب بلدنا.
طالما كان النظام في السلطة، عاش السوريون في قصة يرويها النظام ويتحكم بها، ولكن مع دخول القوات المناهضة للأسد إلى دمشق في كانون الأول، انهارالنظام أخيراً، وبدأ الصمت القمعي ينكشف، أصبح السوريون أخيراً قادرين على الحديث عن هول ما تحملناه على مدى العقود الخمسة الماضية.
بينما عاش معظم السوريين في خوف من قول الحقيقة، قاوم البعض ووثقوا جرائم حافظ وبشار الأسد أثناء حدوثها، من بينهم كانت سميرة الخليل، ناشطة في مجال حقوق الإنسان ومعارضة سياسية، عارضت نظام الأسد قبل الثورة بوقت طويل، وسُجنت لمعارضتها حافظ الأسد، وتعرضت للتعذيب والاعتقال من عام 1987 إلى عام 1991. بعد إطلاق سراحها، ظلت مدافعة لا تعرف الكلل تدافع عن الآخرين الذين سجنوا بعد عامين من الثورة، وخوفاً من الاعتقال، لجأت إلى إحدى ضواحي دمشق التي يسيطر عليها المناهضون للأسد والتي تُسمى الغوطة الشرقية، وعانت الغوطة الشرقية من حصار وحشي لمدة خمس سنوات، وأغلقت لعدة أشهر في كلّ مرة حيث كانت قوات الأسد تقصفها بلا هوادة من الأعلى، وكانت الغوطة هي المكان الذي أطلق فيه بشار الأسد العنان لبعض من هم أشدّ عنفاً له، حيث قتل الغاز الكيماوي الأبرياء أثناء نومهم.من الغوطة، دوّنت السيدة الخليل مذكراتها، مقتطفات من تجربتها تحت القصف والحصار، ومثل نحو 113 ألف سوري اختفوا قسراً منذ عام 2011، اختُطفت في 9 كانون الأول 2013، وما زلنا نجهل مكانها أو إن كانت على قيد الحياة، عثر جارها على صفحات مذكراتها متناثرة في أرجاء منزلها بعد اختطافها، وبالنسبة للسوريين، غالباً ما تكون الذاكرة غرفةً فوضويةً مليئةً بأوراق متناثرة، وشظايا من الزمن والتجربة تحتاج إلى سرد.ساعد زوج السيدة الخليل، الكاتب ياسين الحاج صالح، في نشر مذكراتها بعدة لغات، وعهد إليّ بترجمتها إلى الإنكليزية، وساهمت ترجمة كتاباتها في إثراء القصة التي لم أستطع، في منفاي، أن أرويها عن وطني، تروي مذكراتها من الغوطة جرائم نظام الأسد، وهي أيضاً شهادة على قوة الشهادة، كأن مذكراتها تقول: هذا ما حدث بالفعل، وسوريا لن تنسى. كتبت: “هذه الصور لن تمحى بذكريات حياتية أخرى، لا يمكن أن يمحوها من ذاكرتي إلا الموت”.
المصدر- The New York Times