معاذ الطلب
في خضم المشهد السوري المعقد، تبقى دير الزور واحدة من أكثر المحافظات التي تعاني من التهميش، رغم ما شهدته من دمار ونكبات تفوق في حدتها ما عانته معظم المحافظات الأخرى.
ويُطلب منا، نحن الصحفيين الديريين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، أن نقف على مسؤولياتنا في تسليط الضوء على واقع هذه المحافظة المنسية.
غير أن هذه المهمة ليست بالسهلة، إذ نقف دوماً بين معادلتين: المطالبة بحقوق مشروعة لأهلنا، وبين الابتعاد عن خطاب المظلومية المزمن الذي لم نعد نملك ترف الوقوع فيه.
زيارة غسان هيتو، الرئيس التنفيذي للمنتدى السوري ورئيس الحكومة المؤقتة السابق إلى دير الزور قبل أيام، سلطت الضوء مجدداً على حجم المأساة، فقد كانت هذه الزيارة الأولى له للمدينة، ورغم خلفيته السياسية وخبرته الطويلة في الشأن السوري، لم يتمكن من إكمال مقابلته المصورة إلا وقد غلبته الدموع تأثراً بما رأى: أحياء كاملة مدمرة، لم يتبقّ فيها سوى عائلة أو اثنتين تعيشان وسط الركام.
دير الزور كانت وما زالت محافظة يغلب على سكانها الاعتماد على الزراعة كمصدر أساسي للعيش، إلى جانب الوظائف الحكومية، خصوصاً في المدن، ولكن هذه التوازنات انهارت بفعل الحرب والصراع المسلح الذي تعاقبت عليه أطراف متعددة، فتهجر معظم السكان، وتعرضت المدينة لنهب ثرواتها من نفط وزراعة ومياه، وهي ثروات طالما قال عنها أبناؤها إنها لم تجلب لهم إلا البلاء.
وما يزيد من قتامة الصورة هو الإهمال الحكومي الصارخ الذي يشتكي منه الأهالي يومياً. لا وجود لوفود رسمية، ولا لأي إشارات تدل على اهتمام جدي بمصير هذه المحافظة.
المشافي مدمرة ومهملة، وغابت عنها كامل الأجهزة الطبية الأساسية، ما يجعل من مجرد الإصابة أو المرض مسألة حياة أو موت، وتستمر المأساة يومياً مع فقدان مزيد من الأرواح نتيجة الألغام ومخلفات الحرب، دون أي جهود حقيقية لإزالتها أو توعية السكان بمخاطرها.
وسط هذا الفراغ المؤسسي والإنساني، تسود حالة من السيطرة شبه المطلقة من قبل موالي الأسد على أغلب مفاصل ومؤسسات دير الزور، فالعديد من المناصب – من مدير الزراعة إلى مدير فرع الهلال الأحمر، مروراً برؤساء الجمعيات والمجالس المحلية – باتت بيد أشخاص لا يمثلون الشريحة الثائرة، وقد يعود السبب في ذلك إلى صعوبة عودة أبناء الثورة والكفاءات الحقيقية من أبناء الدير، نتيجة الظروف المادية القاسية، وانعدام أي حاضنة أو سقف يحميهم في حال قرروا العودة.
لقد أصبحت العودة حلماً محفوفاً بالمخاطر، بينما تُترك مؤسسات المحافظة فريسة لأصحاب النفوذ والابتزاز، وفي خضم كل ذلك، لا يخفي أبناء دير الزور شعورهم العميق بالخذلان، ليس فقط من الحكومة بل من السوريين عموماً، فكثيرون منهم يرددون بمرارة أن “الدير والمنطقة الشرقية تُرى فقط كبرميل نفط، وكيس حنطة، وشلّ قطن”، وكأنها مجرد خزان اقتصادي لا أكثر، تُستنزف خيراته دون أن يُنظر إلى سكانه كأناس لهم حقوق وكرامة ومكان في الوطن.
هذا الخطاب المتجذّر يعكس حجم القطيعة واللاعدالة التي يشعر بها أهل المحافظة تجاه دولة طالما اعتبروها بعيدة عنهم، رغم أنهم في صلبها.
في الآونة الأخيرة، وجّه ناشطون وصحفيون من أبناء المحافظة دعوات متكررة لأعضاء الحكومة السورية لزيارة دير الزور، والاطلاع عن قرب على حجم المعاناة التي يعيشها السكان في ظلّ غياب أبسط مقومات الحياة.
وهي دعوات لا تطالب بالشفقة، بل بممارسة الحد الأدنى من المسؤولية السياسية والأخلاقية تجاه محافظة أنهكها الصراع وأهملها الجميع.
وفي موازاة ذلك، تبرز أزمة أخرى لا تقلّ خطورة، تتعلق بمحاولات إعادة تعويم شخصيات عشائرية تقليدية لتمثيل دير الزور في المجالس السياسية أو التشريعية، بعيداً عن أي معيار للكفاءة أو الخبرة.
وقد أثار هذا التوجه غضباً واسعاً بين الفاعلين الثوريين والنشطاء المحليين، الذين عبروا عن رفضهم لهذا النهج من خلال بيانات صدرت عن “الهيئة السياسية الثورية” ومجموعة من القوى الثورية في المحافظة.
جاءت هذه البيانات على خلفية تسريبات حول نية بعض الجهات فرض تمثيل عشائري في المجلس التشريعي، وهو ما رُفض بشدة، مع تأكيد المطالب بأن يكون تمثيل المحافظة مبنياً على الكفاءة والقدرة لا على البنى العشائرية والمحاصصة الاجتماعية. لأن الدير، بكل ما مرت به، لم تعد تحتمل إعادة إنتاج نفس الأنماط التي كانت سبباً في تهميشها وعزلها لعقود.
في ظل هذا الواقع، لم يعد من الممكن الصمت أو التواطؤ مع التجاهل المستمر الذي تعانيه دير الزور.
ليست القضية في استدرار التعاطف، بل في تسليط الضوء على واقعٍ يصرّ على البقاء في الظل، رغم فداحته.
مسؤوليتنا ليست فقط أخلاقية، بل هي أيضاً واجب تجاه من تبقّى في المدينة ومن هُجّر عنها قسراً، أن نرفع صوتهم وننقل وجعهم، ولكن بوعي ومسؤولية، دون أن نحصر سرديتنا في دور الضحية فقط.