تحوّلات القيم: من خلوة الضمير إلى عيون المتابعين

الثورة:

قراءة نفسية في زمن التسويق الرقمي للفضائل

براء الجمعة.. مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

❖ من يشتري القيم اليوم؟

ثمة شيء يختلّ في الروح حين تُصبح “الأخلاق” مادة قابلة للتسويق، حين يُفتَتح موسم الكرم بفيديو، ويُختتَم الإحسان بإعجابات، كأننا نعيش زمناً تُؤدى فيه الفضيلة أمام عدسة لا أمام الضمير، ويُكافأ فيه الفعل الصالح على مدى “قابليته للمشاركة”، لا على صدقه.

ما الذي يدفعنا، كبشر، إلى الانجذاب نحو مشهد الكرم المصوَّر أكثر من الكرم الصامت؟ لماذا يضيع الإنسان النبيل الذي لا يوثق خيره، بينما تتصدّر المشهدَ لفتاتٌ محسوبة تُوزَّع كما تُوزَّع النقاط في لعبة علاقات عامة؟.

❖ القيم كاستعراض: حين تُنتَج الأخلاق كمحتوى

لم يعد الكرم ينبع من أعماق القلب، بل يُخرج بعناية من زاوية الكاميرا، والإحسان الذي كان يوماً فعلاً خفياً لا يحتاج شاهداً، صار مشهداً يُنَسَّق فيه الضحية، وتُرتَّب فيه الخلفية، وتُختار فيه الكلمات بعناية لا لشفاء المكلوم، بل لإقناع المتابع.

الفضيلة إذًا، تحوّلت من ضمير إلى عرض، من نداء داخلي إلى سلعة تُسوّق باسم “التأثير”.

هذا التحوّل ليس عابراً، بل يعكس نزعة نفسية واجتماعية عميقة: الحاجة إلى الشرعية من الخارج، والرغبة في بناء صورة ذاتية معزّزة، حتى لو تآكل الجوهر.

❖ القيمة: من البوصلة إلى المرآة

في التربية النفسية الأخلاقية، تُشكّل القيمة بوصلة داخلية، تحكم السلوك حتى في الخفاء، وتمنح صاحِبها شعوراً بالتماسك، لكن حين تصبح القيمة مرآةً نُظهر بها صورتنا للآخرين، لا دليلاً نسترشد به، تفرغ من معناها وتتحول إلى أداء.

وهنا تنشأ مفارقة: كلما زادت الحاجة إلى توثيق الفعل القيمي، قلّ احتمال أن يكون صادقاً، هذا لا يعني أن كل موثّق مزيف، بل أن التوثيق صار هدفاً قائماً بذاته، ووسيلةً للتسويق الأخلاقي أكثر من كونه توصيلاً للخير، وهكذا تضيع القيمة في زحمة “الصورة”، ويتشوّه الوعي.

❖ الصورة تسبق الجوهر: التأثير النفسي للسوشال ميديا

تغذّي المنصات الرقمية ظاهرة “التمثيل الأخلاقي”، حيث تُستبدل النية بالسرد، والنية الخالصة بالرواية العلنية، ذلك مرتبط بعدة آليات نفسية:

• البرهان الاجتماعي (Social Proof): نميل إلى اعتبار ما يشاهَد كثيراً على أنه “جيد”، حتى لو كان سطحياً.

• الإشراط (Conditioning): ربط القيم بالإعجاب يعزز أداءها للحصول على مكافأة.

• تأثير الهالة (Halo Effect): من يبدو نبيلاً في فيديو، نحكم عليه بسمات إيجابية أخرى تلقائياً.

كلها تجعل “مشهد الفضيلة” أكثر جذباً من “فعلها العادي”، وتدفعنا لتعلُّم القيم كعروض تقديمية، لا كتحولات داخلية.

❖ من القيمة إلى السِمة: خريطة التكوين الأخلاقي

نحتاج هنا لفهم الفروقات الدقيقة بين ثلاثة مستويات من التكوين النفسي للأخلاق:

1. القيمة (Value): مبدأ مجرّد أومنَ به.

2. الصفة (Trait): مظهر سلوكي متكرر نابع من القيمة.

3. السِمة المتجذّرة (Virtue): بنية نفسية متينة تصمد تحت الضغط والاختبار، وتمثل امتداداً حيوياً للضمير.

السِمة هي القيمة وقد تجسدت، لا كمقولة بل كسلوك دائم، وهي تتطلب مساراً طويلاً من التمرين النفسي، يبدأ من الإدراك، ثم الاختبار السلوكي، ثم الرسوخ الداخلي، في عملية تشبه تثبيت جذور شجرة في تربة النفس.

في هذا السياق، يغدو توثيق القيمة في العلن دون مسار داخلي داعم، أشبه بزراعة زهرة بلا جذور، قد تعيش لساعات في المزهرية لكنها لا تنمو.

❖ التقسيم السلوكي: حين تتفكك الأخلاق

في علم النفس يُعرف مفهوم التقسيم السلوكي (Behavioral Compartmentalization) بأنه ميكانيزم نفسي يتيح للفرد أن يعيش أخلاقياً في ميدان، ويتخلى عن ذلك تماماً في ميدان آخر، دون شعور بالتناقض.

مثاله في العالم الرقمي: نفس الشخص الذي “يبكي” في فيديو توزيع طعام، قد يهاجم محتاجاً في تعليقٍ ساخر، أو من يروّج للرحمة في منشور، يعنف طفلاً في بيته، دون أن يشعر بالتصادم.

هذه الآلية تنشأ من غياب البنية الأخلاقية الراسخة، ومن اعتبار القيم سلوكيات ظرفية مؤدّاة حسب السياق، لا مكونات هوية.

❖ الوعي الأخلاقي: ما لا يُرى

القيم لا تُقاس بعدد المشاركات، بل بمدى ثباتها حين لا يرانا أحد. الوعي الأخلاقي ليس في فصاحة الخطاب، بل في هدوء السلوك حين تُختبَر النفس.

في زمن التسويق الرقمي، نحن بحاجة لاستعادة المعنى الأصلي للقيمة: أن تكون نابعة من الداخل، غير مشروطة بردود الفعل.

نحتاج في التربية إلى أن نُعلّم أبناءنا – وأن نُدرّب أنفسنا – على التمرين الصامت، والتدريب النفسي على الصفات، لا الاكتفاء بتمثيلها، فكل تمثيل للقيمة دون رسوخها، قد يُفرحنا لحظة، لكنه يخذلنا في المحك.

❖ في الختام:

من يمثّل؟ ومن يعيش؟ في عالم يسهل فيه شراء الصورة الأخلاقية، يصبح سؤال “من أنا حين لا يراني أحد؟” أصدق من كل منشور.

هل نُمارس الرحمة لأننا نريد الخير، أم لأننا نريد أن نُرى؟ هل نتصدق لنُعين، أم لنُصوَّر؟ وهل نريد لأبنائنا أن يكونوا “مؤثرين أخلاقيين” أم أن يكونوا صادقين ولو بصمت؟.. ربما نحتاج، في هذا الزمان، إلى تربية عكسية: لا تُدرّب طفلك على إظهار القيم، بل على احتمالها في الغياب، فأعظم الفضائل لا تلمع في الضوء، بل تنمو في الظل.

 

آخر الأخبار
اكتمال وصول الحجاج السوريين إلى أرض الوطن ندوة علمية لضمان استدامته.. النحل يواجه تحدياً بيئياً ومناخياً مشاريع إنسانية غزلتها بروح الحاجة.. العجة لـ"الثورة": التعليم هو المفتاح لإطلاق الإمكانيات احذروا " فوضى " الأدوية .. خطة رقابية جديدة وهيئة موحدة للمستوردين الاقتصاد الحر كيف سيدير المشاريع الصغيرة؟    امتحان اللغة العربية يختبر مهارات طلاب المعلوماتية الذكاء الاصطناعي في الإعلام.. بين التمكين والتحدي التحوّل لاقتصاد السوق الحر.. فجوة بين التعليم المهني ومتطلبات الاقتصاد الجديد وزير الاقتصاد يطرح رؤية سوريا للتعافي الاقتصادي في مؤتمر "إشبيلية" قلوب خرجت من تحت الأنقاض مازالت ترتجف... اضطراب ما بعد الصدمة يطارد السوريين في زمن السلم عادات موروثة خاطئة تتبعها نسوة في ريف إدلب لعلاج اليرقان الوليدي 16 مليون سوري بحاجة ماسة للمساعدة.. الأمم المتحدة تطلق نداءً عاجلاً الغاز يودع التقنين بعد إلغاء العمل بنظام "البطاقة الذكية" ضخ المياه من سدود طرجانو والحويز وبلوران باللاذقية  ألمانيا تقدم دعماً مالياً إضافياً لمبادرة "غذاء من أوكرانيا لسوريا"   بريطانيا تجدد التزامها بدعم العدالة وتعزيز سيادة القانون في سوريا  أزمات فنية وتقنية في أجهزة  "وطني" السويداء ... والكوادر تطالب بتدخل عاجل من "الصحة"   لقاء اتحادي التجارة السورية والخليجية..  الشرقي: سوريا تمتلك فرصاً استثمارية واعدة   دعماً لاستقرارهم.. مشروع لإعادة تأهيل مساكن الأطباء بحلب  ورشة عمل مشتركة بين وفدي دمشق وريفها وأمانة عمّان لتعزيز التعاون