الثورة – تحقيق – عامر ياغي:
قيل، والعهدة على القائل: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، لكن هذا المثل لا ينطبق من قريب ولا من بعيد على واقع الحال الذي نحن فيه اليوم، كون القوم واحداً والمصيبة واحدة.
فما جرى في الأيام القليلة الماضية من تقنين قسري للمياه نتيجة ظروف الجفاف، وما رافقها من انحباس مطري، وتراجع في الحصص الموزعة لمحافظة دمشق من المياه الصالحة للشرب، دفع شريحة غير قليلة من مستهلكي المياه “المنزلي- التجاري- الزراعي- الصناعي” إلى التقاطر باتجاه البديل الوحيد، وهو “الصهاريج” التي ضرب أصحابها موعداً غير مخطط له مسبقاً لتغذية آلاف الشقق السكنية والمحال التجارية بالمياه التي تم نقلها من الريف الدمشقي، وتحديداً الغربي منه، باتجاه المدينة عبر صهاريج متوسطة وصغيرة الحجم، وجرارات زراعية، لقاء مقابل مادي تجاوز ضعف ما يتقاضاه أصحاب تلك الصهاريج من قاطني الأبنية والمحال المنتشرة في أرياف مدينة دمشق.
في هذا التحقيق تفاصيل وافية عن هذا الموضوع..
سلامة المياه
ما يجري لا يمكن صبغه بالطابع الربحي- النفعي، ولا بطابع استغلال حاجة آلاف الباحثين بالسراج والفتيل عن الماء لاستخدامه في الاستحمام أو التنظيف، بل يمكن وصفه بالإجراء الإسعافي- الإنقاذي المؤقت.
في كل ما يجري يجب فتح الباب على مصراعيه للسؤال عن مصدر تلك المياه، صلاحيتها، سلامتها، مراقبتها، أسعارها التي تتباين بشكل واضح جداً بين منطقة وأخرى.
100 ألف ليرة لمتر المياه
فواز “أبو محمد- سائق صهريج مخصص لنقل وبيع المياه غير الصالحة للشرب” أكد في حديث خاص لـ”الثورة” أن عملية تزوُّده بالمياه تتم من خلال عدة مناهل مخصصة لبيع المياه على أطراف مدينة عرطوز- بريف دمشق لقاء مبلغ مادي “رفض الكشف عن قيمته”، مبيناً أن سعر المتر المكعب “1000 لتر” يتراوح بين 40 و50 ألف ليرة سورية”، حسب قرب وبعد مكان “المنهل والزبون على حد سواء”، والكمية المراد التزود بها، مشيراً إلى أن الأفضلية بالتعبئة للزبائن الدائمين أولاً، وأصحاب الكميات الأكبر.
بدوره نمر “أبو مصطفى”، أوضح أنه يتزود كل يوم تقريباً “مرة أو مرتين حسب الطلب على المادة” بالمياه من عدد من الآبار الزراعية، لافتاً إلى أنه خلال الأيام القليلة الماضية كان تحرك الصهاريج بمختلف أنواعها وأحجامها باتجاه مدينة دمشق، وتحديداً مناطق المزة والبرامكة وكفرسوسة لتزويد الأبنية السكنية والمحال التجارية، تحديداً بالمياه لقاء مبلغ تراوح بين 80 و100 ألف ليرة سورية للمتر المكعب الواحد.
من جهته أحمد “أبو فهد” قال: إن معظم المناهل التي تتزود بها الصهاريج بالمياه في الريف الغربي من مدينة دمشق هي آبار نظيفة، والدليل هو استمرار تزود المواطنين “الزبائن أنفسهم” بالمياه، وعدم اعتراض أو شكوى أي منهم من نوعية المياه، منوهاً بأن ما يتناقله البعض حول لجوء بعض أصحاب الصهاريج لاستخدام مياه المسابح، ولاسيما في فصل الصيف، في المزارع المحيطة بمنطقتي عرطوز ودروشا، هو عار عن الصحة تماماً، كما أن نظافة صهاريج بيع المياه لا تقل عن الخزانات التي تتم تعبئتها بالمياه.
خالد “أبو وليد” بيّن أن زيادة تعرفة الكميات المبيعة في دمشق ليست ناتجة عن طمع ولا جشع، وإنما هي مرتبطة بكمية المحروقات والزيت المستهلكة، إضافة إلى تهالك الإطارات والمحرك والمركبة بشكل عام.
ويضيف أبو وليد: إن البيع في مناطق الريف الغربي لمدينة دمشق أربح مادياً وأريح جسدياً ونفسياً، كاشفاً عن أنه ليس بإمكان جميع الصهاريج والجرارات نقل وبيع المياه في مدينة دمشق لأسباب تتعلق بصغر حجم الخزانات من جهة، وعدم تجهيز معظمها بخراطيم طويلة تصل إلى أسطح الأبنية الطابقية العالية.
وأوضح أنه لا يوجد ما يمنع أو يعيق عمل الصهاريج العاملة في هذا القطاع خلال عملية تنقلها بين الريف والمدينة، ولاسيما بالنسبة لشرطة المرور، كون حمولاتها تتراوح بين الصغيرة والمتوسطة، بعيداً عن الحمولات الكبيرة.
قيد الدراسة
رئيس مجلس منطقة جديدة عرطوز المهندس هيثم غنيم، أكد أن ملف الصهاريج المخصصة لنقل وبيع المياه في المنطقة وما حولها قيد الدراسة حالياً من قبل المجلس البلدي بالتعاون والتنسيق الكامل مع جميع الجهات العامة ذات الصلة، في خطوة حقيقية باتجاه تنظيم هذا القطاع قدر الإمكان، ولاسيما لجهة وضع قاعدة بيانات خاصة بأنواع وسعة تلك الصهاريج، سواء العاملة منها على البنزين أو المازوت، ووضع تعرفة توافقية مع أصحاب الصهاريج، بناء على التكاليف الحقيقية: “محروقات- زيت- تهالك ..”، ووضع قائمة بمواقع المناهل الخاصة التي يتم التزود بها بالمياه، مبيناً أن العلاقة بين أصحاب الصهاريج قائمة في معظمها على الثقة التي أثبتت الأيام أنها “في محلها نتيجة عدم تلقي أي شكوى من أي مواطن أو صاحب متجر أو منشأة خاصة، سواء لجهة نقص بالكميات المبيعة أو سوء بالمادة.
من أعقد المشكلات
أما الخبير المهندس عبد الرحمن قرنقلة، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال: إن محافظة دمشق وريفها تقع على حوض مياه بردى والأعوج وهي من الأحواض الحرجة في كمية الموارد المائية المتجددة، وتعتبرمشكلة المياه من أعقد المشكلات التي تواجه منطقتنا العربية في الوقت الراهن، وربما في العقود المقبلة بفعل التغيرات المناخية التي أصبحت واقعاً نعيشه، إذ تشير التنبؤات العلمية حتى عام ٢١٠٠ إلى أن منطقتنا ستشهد ارتفاعاً بدرجات الحرارة قد تصل إلى ٥ درجات أعلى من المعدلات المسجلة تاريخياً، ومن المعروف أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد من شدة تواترموجات الجفاف التي كانت تجتاح المنطقة كلّ ٢٠٠ عام مرة، بينما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة ٥ درجات إلى إمكانية حدوث الجفاف مرة كل سنتين.
قرنقلة بيّن أن سياسات متعددة ساهمت بارتفاع درجات حرارة الأرض منها إزالة الغابات والمساحات الزراعية وتحويلها إلى أبنية بيتونية، وكذلك الأنشطة الصناعية والتوسع بتربية الأبقارالتي تساهم مخلفاتها بزيادة الاحتباس الحراري، لافتاً إلى أنه، في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة ومدروسة لتخفيف احتمالات ارتفاع الحرارة، فإن نوبات الجفاف قد تؤدي الى تحويل مدن كاملة قائمة حالياً إلى مدن أشباح.
وأكد أن مدينة دمشق تعاني شحاً بالموارد المائية منذ زمن طويل بفعل عوامل متداخلة أولها موجات الجفاف وانخفاض معدل الهطول المطري، ثم الاستهلاك غيرالرشيد للمياه، وخاصة في قطاع الزراعة التي تستنزف ٨٥ بالمئة من إجمالي الموارد المائية المتجددة وطرق الري التقليدية والحفرالعشوائي لآبارالمياه، ووصل عدد الآبار الارتوازية المخالفة وغيرالمرخصة في محافظتي دمشق وريفها إلى نحو 36 ألف بئر، جميعها آبار زراعية، البعض من هذه الآبار قابلة للتسوية والترخيص، كما أظهر المسح الجغرافي الميداني لتلك الآبار إمكانية تسوية 50 بالمئة منها، موضحاً أنه ووفقاً لمديرية الموارد المائية فإن عدد الآبار المرخصة في دمشق وريفها وصل إلى نحو 16.644 ألف بئر، منها 117 بئراً مصنفا كآبار سياحية، و360 بئراً صناعياً، و79 بئراً للمشاريع الاستثمارية- حسب القانون 10، و42 بئراً للمشاريع الزراعية ذات أهمية اقتصادية، و2156 بئراً لمياه الشرب تتبع لمؤسسة مياه الشرب، و602 بئر لمياه الشرب خاصة، و13098 بئراً زراعية، و190 بئراً لأغراض أخرى (أفران ومستشفيات).
مخاطر صحية
وقال قرنفلة: إن عدم وجود خطط عملية لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة بعد تنقيتها وترشيحها، كما هو معمول به في دول العالم وكذلك الضغط السكاني الكبيرالمتمركز في دمشق وريفها، والذي تجاوز الحدود التي يمكن للموارد الطبيعية للمحافظتين تغطيتها، مبيناً أن استمرار هذه العوامل ربما يحمل معه تحديات ضخمة أمام الحكومة، فهي إما أن تنقل المياه إلى دمشق وريفها من خارج حوض بردى والأعوج “من الفرات أو من الساحل”، لافتاً إلى أن التقنين الذي اضطرت السلطات المسؤولة عن المياه إلى تطبيقه وعادات الإسراف باستهلاك المياه ساهم بانتشار ظاهرة تعاكس توجهات الحكومة، تتمثل في تزويد البيوت بالمياه بواسطة صهاريج تنقل تلك المياه من مصادرغير معروفة، وربما غير آمنة صحياً مما يحمل مخاطر متعددة بيئية وصحية، وعلى السلطات المعنية التدخل للحد من هذه الظاهرة وقمعها.
وأكد أن المنطق العلمي وتعاليم الأديان كافة تحض على ترشيد استهلاك المياه وعدم الإسراف في استهلاكها ولعله من المفاجئ أن ترى عبارة مطبوعة على عبوات مياه الشرب في أستراليا تقول “لا تسرف ولو كنت على نهر جار”.. ، بينما يستمتع البعض لدينا بهدر مياه الشرب لتعبئة مسابح الفيلات الخاصة، أو غسيل السيارات والسجاد، أو هدر مياه الصنابير بانتظار وصول الماء البارد، لافتاً إلى أن الحفاظ على المياه هو الحفاظ على الحياة والقرار لكلّ مواطن يقطن ليس في دمشق وريفها، وإنما على امتداد المساحة الجغرافية السورية.