المنابر الرقميّة.. تسحبُ البِساط من الملتقيات الثقافيّة وتُقعدها جانباً العالم الافتراضي.. يهيمن علينا بفضائه الرحب
الثورة – رنا بدري سلوم:
أتذكرون حين حُجرنا جميعنا، وطالبنا أن تبقى الحركة الثقافيّة بأوجها، حينها كانت كذلك قبل أن تسدل جائحة “كورونا” ستارها على حياتنا اليوميّة، فأصبحنا نتواصل خلف شاشاتنا الليزريّة نعيش حياتنا اليوميّة معظم وقتنا معها.
حينها طالب الكثير من الشّعراء والأدباء بالانضمام إلى مجموعات دوليّة عبر تطبيق “زووم وغول ميت” للمشاركة في فعاليّات ثقافيّة عبر منابر افتراضيّة تبعدنا عن أجواء الأمراض والقلق، وتعيد لنا وهج الأمنيات في مفردات الشّعر وبحوره.
لا يخف على أحدٍ أنّ الثقافة هي معلومة أولاً، ثم يتم دمجها في المجتمع- فوفقاً للباحثين- على الثقافة أن تمرّ بـ”الانثروبولوجيا”، علم الإنسان الذي يُعنى بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمع، فهو علم يتناول الجانب الحياتي للإنسان والجانب الاجتماعي والجانب الثقافي وتأثير اللغة”.
ولا شك أنّ مناخات العالم بشكل عام لها تأثيرها في ثقافة المجتمعات، وفي تشكيل ثقافات جديدة بفعل هيمنة عالم الأرقام على طرق التفكير التي أخذت تنحرف عن أنسنة نتاجات العقل الثقافي، فكما يرى الأميركي “هاري ألين أوفر ستريت” في كتابه (العقل الناضج)، “إن الكائن البشري يمكن أن يصبح – في حدود معيّنة- أيّ شيء يراه محبباً، أولئك الذين يحدّدون له المثيرات التي يستجيب لها”، وهو ما تستجيب له اليوم، منصات ثقافيّة افتراضية نطمح للمشاركة بها، وخاصة مع الشّعراء في بلاد المهجر، فقد اهتم المجتمع السوري بالفكر والإبداع، وخاصة خلال سنوات الثورة السورية التي عاشها الشعراء في بلاد المغترب فكان لهم حضورهم الشّعري الآسر، فكسروا جليد غربتهم بدفء مشاعرهم لأوطانهم التي يطمحون لتحريرها والرجوع إلى حضنها.
مساحة ولكن!
ولنسقط التجربة على شخصية مقربة لنا، نوازن بين حضورها الميداني والإلكتروني، شعراء كان لهم تجربة في هذه الملتقيات، وقد اخترت الحديث مع شاعرٍ يعرف كيف يعيش دوره على المنبر فيحكيه الشعر بلغةِ جسده قبل أن يحكيه هو، يخاطب جمهوره بعيّنيه وقلبه قبل لسانه وكلماته، وقد توقّعت إجابته حين سألته:
هل تغني المنصات الإلكترونية عن المنابر.. وهل يدلي الشاعر بدلوه أمام الكم من الجمهور الرقمي.. هل ما يقوله الشاعر على منبر يقوله أمام شاشة إلكترونية.. هل تختلف مساحة الحريّة في قول ما يريد، وإن كان هدف المنصات الإلكترونية الزيادة الربحية؟.
بدأ ماهر محمد محمد الشاعر الذي يفرد ذراعيه كباشقٍ حين يعتلي المنابر فيحلّق بالشعر بنا، بسرد إيجابيّات الملتقيات الإلكترونيّة لضرورة وجودها، وهي التي تهدف لتعزيز القراءة والتفاعل مع النصوص الأدبيّة والفكريّة، ما يساهم في رفع مستوى المعرفة، وتطوير مواهب المبتدئين في الشعر وكشف أساليب تطويره لديهم، والأهم هو تعزيز الحوار الفكري في القضايا الثقافيّة والاجتماعيّة، إضافة إلى تقارب الثقافات والتي تساهم -والقول له -: “في جمع عدّة شعراء من مختلف الأماكن أمام شاشة واحدة، يتفاعلون مع بعضهم ويتعرّفون على تجاربهم الشّعريّة، لكن برأيه، هناك نوع من التفاعل لا يمكن أن يصل إلى النفس البشريّة، وخاصة أن التفاعل فقط بصري مؤطر والشاعر أمام الشاشة مقيد في حركته كجلوسه في المكان، وتأطير حركة جسده، فلا توجد لغة جسد قادرة على إيصال حسّ الكلمات والتعبير عنها.
فبالنهاية الشّاعر من “لحم ودم”، وهو أمام جمهور يفقد هذا التفاعل العاطفي والحافز ليتسمر في سوية واحدة، نظرة من الحضور.. تعطيه الدفع ليتسمر في العطاء، مبيناً أنّ الملتقيات الإلكترونيّة في العالم الرقميّ لا تغني عن الأمسيّات الشعريّة، واعتبرها الشاعر كارثة حقيقة إذا حلّت محلها، فنفقد هذا التجمّع الإنساني المتفاعل ونفقد التواصل بيننا كبشر، فبين الجمهور والشّاعر هناك التقاء روح، فالحضور يحفّز على الإبداع من خلال مشاعرهم وتأثّرهم عبر التّصفيق، والشاعر يقرأ جمهوره من إيماءات وجهه.
خاتماً بالقول: الملتقيات الإلكترونية ضروريّة، لكنها لا تغني عن الفعاليّات الثقافيّة المباشرة.
فضاء الهويّة
ترى الشاعرة التربوية ثناء يوسف العلي الجانب المضيء من الملتقيات الثقافية الإلكترونية والتي كان لها تجربة متواضعة معها، ولاسيما أنها تحبّذ الظهور الإعلامي عبر الشاشات الوطنية، وتبقى الملتقيات الإلكترونيّة وفقاً لها “فرصة مهمة لتبادل الخبرات وكسب ثقافة شعريّة على نطاق واسع، فالشّعر وكما أسمته “فضاء الهويّة”، وعلى الشّاعر الأكاديمي تحديد الأفكار المتغيّرة في حدود الوطن والأبعاد الوطنيّة من أجل تقديم وجهات نظر جديدة متغيرة تواكب كل الأحداث والمتغيرات على كل الصعد، وقد لخصت الملتقيات الالكترونية أهمية تعزيز مكانة الشعر وجذب جمهور الشعر لتحديث كل مرحلة جديدة يخوضها الشاعر، وهذه تجربة خلقت تجربة أدبية بين الشاعر والقارئ، ولا يمكن نكرانها، فقد ساهمت في الانتشار الواسع عبر الوطن العربي.
بها توحد الشعر واللغة والمبادئ العامة التي تربط الأمة العربية، فتبادل الخبرات بين الشعراء يعطي حافزاً لتقديم الأفضل.
برسم المعنيّين
لابد للشعراء أينما كانوا من الاستجابة الطبيعية للتغيرات الاجتماعيّة والتقنيّة، واستغلال فرص جديدة لتبادل الأفكار وتعزيز الحوار الثقافي، وهنا لعبت التقنية الرقميّة دورها بسهولة الوصول إلى حد كبيرٍ في تجمّع المعنيّين بالأدب والفن والفكر وبالتالي زيادة المتابعين وانضمامهم الى هذه المجموعات عبر الفيسبوك والواتساب والانستغرام وغيرها.
والسؤال هنا: لماذا لا تدعم وزارة الثقافة والمؤسّسات الثقافيّة تلك المنصّات الإلكترونيّة وتستفيد من نسبة تلك المشاهدات في تبنّيها وإعطائها الغطاء الرسمي لتنظيمها ودعمها، وبالتالي يعود بالفائدة على الطّرفين كمحتوى مقدّم وكرجع صدى.. وبالتالي تكون هناك أرشفة إلكترونيّة وتوثيق رقمي لكل الملتقيات التي تصدّر للعالم أننا رغم كل الحروب مازلنا نعبّر عما يخالجنا من مشاعر وأحاسيس، وإن كان خلف شاشة ليزريّة.