الثورة – تحقيق هلال عون:
“الديون البغيضة” هو مصطلح يستخدم في القانون الدولي لوصف الحالة التي تحصل فيها حكومة ما على قرض لا يستخدم لمصلحة شعبها.
وقد تم طرح مفهوم الديون البغيضة لأول مرة من قبل “ألكسندر ناحوم ساك” عام 1927.
في هذا التحقيق تحاول صحيفة الثورة توضيح هذا المصطلح ومدلولاته، ومعرفة ما إذا كانت الديون أو القروض المترتبة على النظام المخلوع تدخل تحت مصطلح الديون البغيضة، خاصة أن الدول الدائنة كانت جزءاً من حرب النظام المخلوع ضد شعبه، وكان تحالفها معه ثمناً لتعزيز وجودها العسكري ونفوذها السياسي؟.
مفهوم الديون البغيضة
عميد كلية الحقوق بجامعة دمشق، وعضو لجنة الإعلان الدستوري، الأستاذ الدكتور ياسر الحويش، يجيب عن سؤال صحيفة الثورة حول مفهوم الديون البغيضة، فيقول: الديون البغيضة تعبير يتم تداوله في ظروف غير اعتيادية، تنم عن توتر أو حساسية في العلاقة بين طرفي عقد الدين (القرض) وهما الدائن (الدولة المُقرِضة) والمدين (الدولة المُقترضة).
ويندرج موضوع الديون البغيضة في سياق وراثة الدول، وهو من الموضوعات التقليدية في القانون الدولي.
سيئ النية
وعن الظروف التي تتم فيها إثارة هذا الموضوع قال د. الحويش: غالباً ما تثار حجة الدين البغيض، في أعقاب تغير جذري في أنظمة الحكم ناجم عن ثورة شعبية تطيح بالنظام الاستبدادي الحاكم الذي عقد اتفاق القرض مع الدائن الذي يعلم (أو يُفترض أن يعلم) بسوء استخدام المبالغ المقترضة.
فإذا أطيح بالنظام الاستبدادي الحاكم، فإن النظام الجديد يرفض الاعتراف بأحقية الدائن باستيفاء الدين منه بحسبانه ممثلاً جديداً للدولة المدينة، لأن المبالغ المقترضة استخدمت في غير صالح الشعب أو للإضرار به والتنكيل فيه، وليس على الدولة في مثل هذا الوضع واجب السداد، بل على النقيض من ذلك فإن من واجبها الأخلاقي أولاً أن تتنكر لهذه الديون البغيضة، وأن تسعى ثانياً إلى إلغاء المفاعيل القانونية التي ترتّبت على التزامات النظام الاستبدادي تجاه الدائن (سيئ النية).
لا ينبغي
أما المستشار والخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش، فقال عن مفهوم الديون البغيضة: في المبدأ، تتمتع الديون الدولية بحصانة قانونية تضمن انتقال التزامات الوفاء بها إلى السلطات الجديدة عند تغيير السلطة.. إلا أنه ولأسباب كثيرة قد لا تعترف السلطات الجديدة ببعض الديون المتعلقة بالنظام السابق، وهنا نشأ مفهوم ” الديون البغيضة” أو “الكريهة”.
وتابع عياش: يرتكز مفهوم الديون البغيضة على فكرة مفادها أنه لا ينبغي تحميل الحكومة مسؤولية الديون التي اقترضها نظام سابق لم يخدم مصالح شعبه بها.. وهذه مسألة خلافية تمت مناقشتها منذ سنوات عديدة، وهناك آراء مختلفة.
لأغراض غير مشروعة
وعما إذا كان من الممكن إلغاء الديون البغيضة، قال الدكتور عياش: لم يتم التوافق التام على تعريف موحد ومقبول عالمياً، إلا أن أغلب المختصين متفقون على أن الدَّين البغيض هو دَين على حكومة لم تخدم مصالح شعبها، بمعنى آخر، تم استخدام الديون لأغراض غير مشروعة، مثل تمويل نظام فاسد، أو تمويل حرب ليست في مصلحة الشعب، والآثار القانونية المترتبة على الديون البغيضة معقدة، ولا يوجد إطار قانوني واضح للتعامل مع هذه القضية، لكن الخبراء يرون وجوب إلغاء الديون الكريهة، بينما يرى آخرون وجوب التفاوض بشأنها لعدم استغلالها سياسياً، والحفاظ على حقوق الدائنين.
وتابع عياش: إن إلغاء الدين البغيض يعني إسقاطه، وليس للدائن حق المطالبة بسداده، بينما إنكار الدين البغيض يعني اعتبار الدين لاغياً وباطلاً، وليس للدائن حق قانوني في السداد.
تحديات
وعن أهم التحديات التي تواجه تحديد ما إذا كان الدين بغيضاً أم لا، قال عياش: هذه عملية ذاتية تتطلب تحليلاً دقيقاً للظروف التي تم فيها صرف الديون.
والتحدي الآخر هو فرض مفهوم الديون البغيضة، حيث لا يوجد إطار قانوني واضح للتعامل مع هذه القضية.
وأضاف: لفهم أوسع لمفهوم الديون البغيضة، من المهم النظر في بعض العوامل الرئيسية التي تحدد ما إذا كان يمكن اعتبار الدين بغيضاً (كريهاً).
وتشمل هذه العوامل: أولاً: نية الحكومة المقترضة.. فإذا كانت الحكومة المقترضة فاسدة، أو غير شرعية (محلياً ودولياً)، أو تتصرف ضد مصالح مواطنيها، فيمكن اعتبار الدين بغيضاً.
ثانياً: استخدام الأموال، كأن يتم استخدام الأموال لتمويل أنشطة تتعارض مع مصالح مواطني الدولة المقترضة، فقد يعتبر الدين بغيضاً -على سبيل المثال – إذا حصلت الحكومة على قرض لتمويل حرب لا تحظى بشعبية بين مواطنيها، فقد يعتبر هذا الدين بغيضاً.
ثالثاً: معرفة وعلم المُقرض، فإذا كان المُقرض يعلم أو كان ينبغي أن يعلم أن الحكومة المقترضة فاسدة أو لا تتمتع بالشرعية الكافية، وتتصرف ضدّ مصالح مواطنيها، فقد يعتبر الدين بغيضاً.
مراجعة تلك الديون
وحول ما إذا كان مفهوم الديون البغيضة ينطبق على حالة ديون كل من إيران وروسيا بعد اندلاع الثورة السورية، قال د. عياش: نجد أهمية وضرورة إثبات أن ديون هاتين الدولتين بعد 2011 هي ديون بغيضة.
وفي سبيل ذلك لا بدّ من مراجعة تلك الديون وتفاصيل اتفاقياتها وكيفية إقرارها ومبرراتها حتى يمكن إثبات أنها تمت لنظام تنقصه الشرعية المحلية والدولية، وأنه استخدم هذه الديون لتمويل حرب ضدّ شعبه وليس للتنمية.
وكذلك إثبات العلم النافي للجهالة من قبل الدول الدائنة بأسباب هذه الديون وأغراضها.
المحكِّم القانوني التجاري المحامي وسام كريم الدين قال: على الرغم من أن المصطلح مستخدم في أوساط القانون الدولي، إلا أننا لا نجد تعريفاً متفقاً عليه له، ولم يتم تنظيمه ضمن الاتفاقات الدولية.
وعن مفهوم الخط الائتماني قال المحامي كريم الدين: هو مصطلح مصرفي يحدد آلية منح القرض، وهو بشكل مبسط تحديد السقف المسموح للقرض الذي يمكن سحبه على دفعة واحدة أو دفعات، ولا علاقة لمصطلح الخط الائتماني في مشروعية الدين من عدمه، فهو تأطير لآلية الدفع والرد، وليس هو محل الدَّين بحد ذاته، فسواء تم منح القرض دفعة واحدة أو عن طريق الخط الائتماني يبقى سبب الدين هو الذي يحدد مشروعيته أم لا، وفيما إذا كان يندرج تحت عنوان الديون البغيضة.
ينطوي الدَّين على شوائب
وبالعودة للدكتور ياسر الحويش، فقد أجاب على سؤالنا عن صفات الديون البغيضة بالقول: في خلافة الدول للديون العامة ترث الدولة الخلف ديون الدولة السلف بما لها وما عليها، ولكن تُوصف الديون والقروض في العلاقات الدولية بأنها ديون بغيضة، عندما ينطوي الدَّين على شوائب، بين طرفيه، ناجمة عن استخدام سيئ للقرض من جانب المقترِض، مع علم المقرض، أو على فرض علمه بمآل المبالغ التي يتم إقراضها، كما لو استخدمت لتمويل فساد لدى سلطة الدولة المقترضة، أو أُنفقت في غير صالح شعب الدولة المُقترضة كتمويل نظام استبدادي لحربه على شعبه، وهو أمر غير وارد في الحالات الطبيعية والظروف الاعتيادية المحيطة بنظام القروض الدولية.
وعن الأصل في القروض التي تعقدها الدول بين بعضها، قال د. الحويش: الأصل أن يتم استخدامها من جانب الدولة المقترضة لصالحها العام، كإنفاقها من أجل التنمية أو الإعمار أو في أوجه إنفاق معقولة، وليس لتحقيق مكاسب شخصية لدى سلطة الدولة المقترضة، أو لهدم ركن من أركانها (أعني الشعب) أو النيل منه أو التنكيل به، فإذا حدث ذلك، مع علم الدائن، أو على فرض علمه بهذا المآل للأموال المقترضة، فإن عملية الإقراض برمتها تكون عرضة للتشكيك في سلامتها القانونية والأخلاقية، ومن ثم فإنها تدخل في سياق ما بات يعرف بالديون البغيضة.
قد تُصنّف مقايضة أو مِنحاً
وعن شكل تلك القروض على النظام المخلوع، قال د. عياش: يجب ملاحظة أن غالبية الديون الإيرانية وبعض الديون الروسية، كانت على شكل خطوط ائتمانية، ولذلك يجب التحقق مما إذا كانت تتضمن فترة سداد محددة، وفائدة محددة، وتحديد شكل الوفاء.
فإذا لم تكن تتضمن تحديداً واضحاً وصريحاً لهذه العوامل، فلا يمكن اعتبارها ديوناً أساساً، بل يمكن أن تصنف ضمن مفاهيم المقايضة أو المنح والمساعدات من حلفاء.
ولذلك تقتضي معالجة هذه القضية الاعتماد على خبراء مخضرمين في القانون الدولي ومراجعة لاتفاقيات الديون المقصودة، والاستفادة من الطريقة الثورية لتغيير النظام، ومن الرأي العام الدولي والتأثير في المنظمات الدولية ذات الصلة لإثبات طبيعة هذه الديون واتخاذ القرارات المناسبة حيالها.
وبالعودة للمحكِّم القانوني المحامي كريم الدين فقد أجاب على سؤال “الثورة” عن إمكانية مطالبة الشعب السوري للدول الدائنة بتعويضات نتيجة ما لحق به من ضرر؟
بالقول: “إن الدول التي منحت الأموال والدعم السياسي للنظام المخلوع في حربه ضدّ الثورة، وشاركت بالخبرات والرجال والعتاد في هذه الحرب، هي طرف أصيل فيها، ساهمت في الدمار الذي لحق البلاد وأهلها وتدمير أصولها وبنيتها التحتية. والمبدأ القانوني العام، هو أن كل من سبب ضرراً وجب عليه التعويض، ومن منظور قانوني فإن الأجدر بدل مطالبة هذه الدول بفاتورة تمويلها للحرب ضدّ المنتصر، لا بدّ لها من الالتزام بالتعويض للدولة السورية عمّا سببته مساهمتها المالية وغير المالية من تدمير سوريا، لذلك أنصح بتنظيم لجان قانونية للمطالبة بحق الشعب السوري بهذه التعويضات من كل دولة أو كيان سبب له ضرراً في دعمه للنظام المخلوع”.
الأمر محسوم أخلاقياً
وحول قانونية مطالبة روسيا وإيران بديونهما البغيضة باعتبارهما طرفين في الحرب من النظام المخلوع، قال د. الحويش وبالرغم من أن حالات الديون البغيضة قليلة نسبياً إلا أنها يمكن أن يُبنى عليها للتأسيس لقاعدة مستقرة في القانون الدولي المعاصر، ولو كان ذلك على أساس عرفي.
ويمكن في الحالة السورية أن تثار فكرة الديون البغيضة التي التزم بها النظام البائد تجاه روسيا وإيران، وهما الداعمان الرئيسان اللذان سانداه ضد الشعب السوري طوال سنوات ثورته من 2011 حتى 2024 وأمدّاه بالمال والسلاح لقمع الشعب السوري، فهل ثمة إلزام قانوني أو أخلاقي يبيح للطرف الدائن المطالبة، أو يرتب على المدين الاستجابة لها؟!.
أعتقد أن الشق الأخلاقي محسوم سلفاً، فليس من الأخلاق في شيء أن يطالب القاتل ضحيته بثمن الرصاص الذي استخدمه ضده.
أما من الناحية القانونية فإن المسألة تحتاج لاتخاذ إجراءات وفق السياق الذي تحدده مسارات المطالبة.
التسويات السياسية
وتابع د. الحويش: قد تتضمن اتفاقية القرض آلية معينة لحل النزاعات بخصوص القرض، وقد لا تحتوي على شيء بهذا الخصوص وتترك تسوية النزاعات للقواعد العامة في القانون الدولي، وفي كلتا الحالتين يمكن للدولة الجديدة أن تدفع بحجة الدين البغيض، إما بمبادرة من الدولة الجديدة الوارثة، أو في معرض الرد على مطالبة من الدولة الدائنة.
صحيح أن القواعد التقليدية في القانون الدولي ليس فيها هذا الوضوح الذي يُحلّ من الالتزام بإيفاء الديون البغيضة، وأن هذا التحليل يحتاج لجهود قانونية جادة ودؤوبة، ولكن التسويات السياسية قد تشكّل مساراً موازياً يتيح التخلص من أي التزام قانوني بهذا الخصوص.
ونعتقد أن الذهاب في السياق السياسي قد يشكّل حلاً سريعاً للمشكلة، لكن الذهاب في المسارالقانوني سيشكل ترسيخاً لسابقة تخدم الإنسانية في تأكيد عدم أحقية المطالبة بدين بغيض.
إنكارأو تفاوض
وحول ما إذا كانت هناك تجارب دولية مشابهة يمكن الاستفادة منها قال د. عياش: تثبت التجارب الدولية أسلوبين لحل القضايا المتعلقة بالديون البغيضة، منها أسلوب إنكار الدين وعدم الاعتراف به، وبالتالي يتم تحميله على مسؤولية النظام السابق، أو التفاوض حوله بما يضمن إعفاءً جزئياً من أصل الدين أو من فوائده مع زيادة فترة السداد، وطريقة السداد.
وبالتالي على الحكومات الحذرعند طلب التمويل الخارجي على شكل ديون.. بأن تكون هذه الديون بموجب اتفاقيات يوافق عليها البرلمان، وأن تكون مخصصة للتنمية أي -لإنفاق استثماري مولِّد للدخل وليس إنفاقاً جارياً- وأن تحقق مفهوم الاستدامة أي عدم توريط الأجيال القادمة بأعباء والتزامات تفوق إمكانياتهم ومواردهم، فقد حدث ذلك في العديد من التجارب الدولية وأدت إلى نتائج كارثية.