الثورة – غصون سليمان:
مفهوم القيم لا يتجزأ مهما تعددت الآراء والتحليلات، فالقيم لا تسقط بالتقادم ولا تدخل في متاهات الرمادية وفوضى التحليل والتركيب وستر المعاني بعكس السلوك والأفعال.
من هنا كان موضوع القيم يعد مجالا ًأساسياً من مجالات البحث في علم الاجتماع لما للقيم من تأثير في السلوك الانساني، وفي انتشار الظواهر الاجتماعية المختلفة التي يمكن أن تسهم في تطوير المجتمع، وتمكين أفراده من تحقيق طموحاتهم وتلبية حاجاتهم، وبنفس الوقت يمكن أن يكون لها دور سلبي أيضاً في تفتيت مصادر القوة الاجتماعية وبعثرة الطاقات الفردية والجماعية على حد سواء.
في هذا السياق تشير الدكتورة أمل دكاك- استاذة قسم علم الاجتماع جامعة دمشق، أن أهمية البحث في مجال القيم تأتي من اتساع مظاهر التغيير التي تشهدها القيم المحددة لأنماط السلوك بين حين وآخر في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات الإنسانية المتعددة في الوقت ذاته، منوهة بما شهدته المجتمعات الأوروبية من تغيرات واسعة في مجال القيم ذات الصلة بالعلاقات … على سبيل المثال لا الحصر خارج مؤسسة الأسرة، وما هو سائد اليوم من شرعية المعاشرة الجنسية من دون زواج في هذه المجتمعات، وهذا ما يناقض تماما القيم التي كانت سائدة في المجتمعات الأوروبية نفسها طيلة العصور السابقة.
كما أن القيم التي توجه العلاقات الحميمة بين الافراد تطورت بشكل تدريجي وطبيعي مقارنة بما كانت عليه في فترات سابقة، موضحة، في هذا الإطار، أن العلاقة الوثيقة بين علم الاجتماع المعرفي وعلم الاجتماع القيمي في نواحي عديدة تظهر منها ما يرتبط بالتفسيرات الاجتماعية للمعارف الانسانية وللقيم من جهة، ومنها ما يرتبط أيضاً بطبيعة العلاقة بين المعرفة والقيم من جهة ثانية.
وتلحظ دكاك في الوقت نفسه أن مسألة التفسير الاجتماعي لأشكال المعرفة ومستوياتها ولأشكال القيم وطبيعتها تعد موضوعا أساسياً من مواضيع البحث في علم الاجتماع، وبالتالي فإن مسألة العلاقة بين الجهود التي يبذلها علماء الاجتماع لإنتاج معارفهم واتجاهاتهم القيمية والأخلاقية تعد موضع اهتمام كبير من قبل علم الاجتماع أنفسهم.
وتضيف دكاك في سياق الموضوع أن الأول المرتبط بتفسير طبيعة المعارف الإنسانية يشترك علم الاجتماع المعرفي مع علم اجتماع القيم في معالجة القيم بوصفها منتجات اجتماعية لا تخرج في مجملها عن الخصوصيات الاجتماعية، والتاريخية، والثقافية، التي تصف المجتمعات الإنسانية وتميز بعضها عن بعض.
وكما هو حال شأن المعارف الإنسانية في كونها نتاجا للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي السائد في مرحله تاريخية محددة.
القيم نتاج الواقع
كذلك تعد القيم نتاجاً للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يميز هذه الجماعة عن غيرها من الجماعات.
ففي الوقت الذي تأخذ فيه شريحة واسعة من علماء الاجتماع وفي مقدمتهم علماء الاجتماع الماركسيون بتفسير مظاهر التغيير في القيم الاجتماعية المحددة أنماط السلوك بتغير أوسع يمس بنية المجتمع نتيجة الصراعات الاجتماعية والطبقية فيه، ترى شريحة أخرى من علماء الاجتماع وخاصه أصحاب نظريات التعاضد الاجتماعي ان التغير في اتجاهات القيم الاجتماعية إنما يأتي نتيجة التغير في طبيعة البنية الاجتماعية نفسها، وفي مظاهر التغير في أشكال التعاضد بين مكونات البنية الاجتماعية، التي يمكن التمييز في إطارها بين التعاضد الآلي، والتعاضد العضوي، حيث ينتج كل منهما نمطا من القيم الاجتماعية، الذي يختلف في اتجاهاته ومساراته عن النمط الآخر.
وفي الوقت الذي تعد فيه القيم الاجتماعية، وكذلك المعارف الإنسانية نتاجا لطبيعة الصراعات الاجتماعية والطبقية، كما تذهب الى ذلك مدارس التحليل الماركسي، وتعد فيه أيضاً نتاجاً لبنية المجتمع وأشكال التعاضد الاجتماعي السائدة فيه- بحسب رؤى اميل دور اكهايم، فان القيم تعد عاملاً أساسياً من عوامل التطور ،ومن عوامل التغير الاجتماعي، كما يذهب الى ذلك ماكس فيبر ذلك ان مستويات التطور ومظاهره في المجتمعات الإنسانية المختلفة، إنما ترتبط بطبيعة القيم السائدة في هذه المجتمعات، ونموذجة في ذلك نموذج تفسير نشوء الرأسمالية وتطورها بالقيم الدينية التي كانت سائدة في حينها.
ويؤدي هذا التصور الى تناول مسألة العلاقات بين القيم والمعارف الإنسانية التي تأخذ من منحيين مترابطين في وقت واحد، فالقيم الاجتماعية من منظور ماكس فيبر تحدد مسارات الفكر واتجاهاته، كما أنها تحدد أشكال الفعل التي يمارسها الإنسان على نطاق واسع، وتعد دراسته حول نشوء الرأسمالية الصناعية في أوروبا الغربية من ابرز المعالم التي تميز كتاباته في علم الاجتماع.
وقد أراد ماكس فيبر في دراسته التأكيد على ضرورة الربط بين الأخلاق وروح الرأسمالية لفهم نشوء النظام الرأسمالي وتطوره فيما بعد، ويجد فيبر في هذا السياق أن العامل الديني يحمل في مضامينه مجموعة كبيرة من القيم الاجتماعية والأخلاقية هي التي تفسر الظواهر الاقتصادية.
فالأخلاق تحمل في مضامينها قيم احترام الوقت، واحترام الانسان، واحترام المال، واحترام الثروة، وغير ذلك من القيم التي شكلت الأساس في نشوء النظام الرأسمالي وتطوره فيما بعد.
وفي هذا السياق تنوه دكاك كيف تأخذ المنتجات المعرفية من علم وآداب وثقافة مسارات تتوافق من خلالها مع مسارات القيم نفسها من جهة، ومع مسارات التطور الرأسمالي من جهة ثانية، وفي ذلك تكمن أهميه القيم في إنتاج المعارف.
فالباحث والأديب والشاعر والموسيقي غالباً ما يتكيف نشاطهم مع القيم الاجتماعية التي يؤمن بها ومع اتجاهات القيم المستقرة في وعيهم، فلا يمكن لأحد من هؤلاء أن يمارس نشاطاً مركزا لفترات زمنية طويلة يتعلق بموضوعات ليست ذات قيمة، بل بالعكس يمكن أن يمضي شطراً كبيراً من حياته في معالجة موضوعات يؤمن بها وعلى قناعة بمضمونها حتى لو كانت ذات مردود مادي ضئيل.