الثورة – سيرين المصطفى:
في قلب الثورة السورية، ومن مدينة صغيرة تقع في ريف إدلب الجنوبي، وُلدت ظاهرة لافتات كفرنبل، التي تحولت من وسيلة تعبير محلية إلى رمز عالمي للحرية والكرامة والوعي السياسي، لم تكن تلك اللافتات مجرد كلمات مرفوعة على الورق، بل كانت صرخة شعب أراد الحياة، ورسائل مقاومة مغلفة بالسخرية الذكية، ومواقف إنسانية تتجاوز حدود الطائفة والجغرافيا والسياسة.
مع انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، برزت مدينة كفرنبل كمركز إعلامي مميز في قلب الحراك الثوري، عُرفت بلافتاتها الأسبوعية التي كانت ترفع في مظاهرات الجمعة، والتي خطّها أبناء المدينة بلغات عدة، ليخاطبوا بها العالم.
تميزت تلك اللافتات بحسها الساخر والناقد، وبعباراتها القوية التي تختزل معاناة السوريين وطموحاتهم، كما أنها عبّرت عن مواقف سياسية دقيقة بلغة بسيطة لكنها عميقة.
ساهمت لافتات كفرنبل في بلورة وعي جماهيري جديد داخل الثورة، فكانت تعكس المزاج الشعبي وتوجهات الشارع، وتمنح المحتجين أداة سلمية فعالة للتعبير عن أفكارهم.
استطاعت تلك اللافتات أن توحد أطياف السوريين خلف رسائلها التي تتحدى الاستبداد وتُعلي من قيمة الإنسان وحقوقه.
كان من بين أبرز تلك العبارات: “أنا درزي وعلوي سني وكردي سَمعولي مسيحي يهودي وآشوري; أنا الثائر السوري وأفخر”، وهي عبارة تختصر جوهر الثورة السورية في سعيها للتعددية والحرية، ورفضها لمحاولات النظام الطائفي لتمزيق النسيج السوري.
من المحلية إلى العالمية
لم تمضِ فترة طويلة حتى أصبحت لافتات كفرنبل مادة يتداولها الإعلام العالمي، تنشرها كبريات الصحف، وتعرضها شاشات التلفزة والمنصات الرقمية.
لقد خاطبت هذه اللافتات العالم بلغة إنسانية تجاوزت الحواجز، واستخدمت الأدب والفن والسخرية السياسية لإيصال رسالة السوريين بأنهم ليسوا مجرد ضحايا، بل أصحاب قضية عادلة.
النجاة من القصف
مع اشتداد الحملة العسكرية للنظام وحلفائه على ريفي إدلب وحماة، وخصوصاً خلال التصعيد العنيف على كفرنبل، جرت محاولات حثيثة لإنقاذ هذه اللافتات من الضياع أو الدمار.
وبالفعل، تم إخراجها سراً من المدينة، لتُحفظ كوثائق ثورية ذات قيمة لا تقدّر بثمن.
وفي العاصمة دمشق، وبعد انتصار الشعب السوري على طاغيته في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، شُهد افتتاح معرض خاص يضم هذه اللافتات التاريخية، بحضور واسع من ناشطين ومثقفين وناجين من المعتقلات، إلى جانب ذوي الشهداء.
المعرض لم يكن مجرد مناسبة فنية أو ثقافية، بل محطة للتأمل، للعودة إلى اللحظة الأولى التي بدأ فيها كل شيء، لحظة قرر فيها السوريون أن يكتبوا مصيرهم بأيديهم.
لافتات كفرنبل … إرث خالد
اليوم، أصبحت لافتات كفرنبل إرثاً وطنياً وإنسانياً، توثق حكاية ثورة، وصوت شعب، وتاريخاً كتبه البسطاء بالحبر والدم.
إنها ذاكرة ناطقة لا يمكن طمسها، ودرس في كيف يمكن للكلمة الصادقة أن تواجه الرصاصة، وللوحة صغيرة أن تهزّ ضمير العالم.
تلك اللافتات لم ترفع فقط في وجه النظام، بل رفعت في وجه الصمت العالمي، والخذلان، والتواطؤ، لتقول: إن الحرية لا تموت، وإن الحق لا يُنسى، وإن الثورة وإن خمد صوتها يوماً، فإن كلماتها تبقى خالدة.