العريان لـ”الثورة”: مخاطر حقيقية تلحق بالأطفال واضطرابات تتسبب بتصرفات عنف
الثورة – جهاد اصطيف:
يفترش الشاب أحمد- طالب جامعي- كما عرف عن نفسه، منذ أعوام بقعة أرض صغيرة بالقرب من المتحلق بحلب، بعد خروجه قسراً من داره في حي صلاح الدين “الشعبي”، ليعتاش على ما يمكن كسبه من التسول، عاقداً يديه حول كوب ورقي شبه فارغ من القهوة، معتقداً أنه أفضل حالاً من ذي قبل، من دون أن يدرك بعد أنه أحد ضحايا “التشرد القسري” الذي فرضته الظروف المعيشية الصعبة عليه وعلى أمثاله من النساء والأطفال المتسولين.
كان أحمد يتسول بجرأة، ليس كغيره من دون خجل مشوب بالخزي، أو أن يخفض عينيه كلما مر أحد من معارفه، إلا أن وجهه، ورغم تقبله الحديث معنا بأريحية، عكس صعوبة الوضع المعيشي في البلاد، إذ لا تزال آثار الحرب والنزوح بادية في عينيه.
ففي حي صلاح الدين الشعبي، يطغى على الحياة صوت الإنسان العادي الذي ما زال يصارع من أجل المعيشة، يظهر أحمد وغيره من الأطفال المتسولين كمقياس للفقر والبؤس، إنهم ليسوا مجرد أرقام في إحصائية ما، بل هم أفراد لديهم قصصهم وأحلامهم التي سلبت منهم بفعل الظروف القاسية.
الأعداد تتزايد
للأسف تتزايد كل يوم أعداد المتسولين في مدينة تعد من أعرق وأقدم مدن العالم، التي لطالما وصفها كل من زارها بأنها مدينة العلم والحضارة والأدب، وتحديداً في أسواق مركز المدينة والمناطق التجارية وحتى السكنية وفي الساحات والمستديرات وعند الإشارات، ولكن ما يثير القلق بشكل خاص، هو ظهور أطفال ونساء كثر، في تطور غير مسبوق للظاهرة، التي على ما يبدو ارتبطت بتداعيات الحرب في سوريا.
ومع تحقيق المتسول إيرادات يومية مجزية، تحولت ظاهرة التسول في حلب إلى مهنة، والسؤال: هل تدار من قبل أشخاص يعملون في الخفاء لتنظيم عمل المتسولين؟
بمعنى هل ترتقي لأن تكون جريمة منظمة أم إن الحاجة هي التي فرضتها على المتسولين؟..
ليس مفاجئاً أثناء قيادة السيارة في زحام مروري بأحد شوارع حلب الرئيسة، أن تباغتك رشة من الماء مع المنظفات على زجاج سيارتك الأمامي، يتبعها تمرير ممسحة بالية على زجاج السيارة من شخص صغير في السن يفرض خدماته عليك، من دون أن يبالي لرفضك أو قبولك لهذه الخدمة، وبعد أن يقدم الشخص خدمته الإجبارية يحشر رأسه أو جزءاً من جسده داخل السيارة، ويطلب المال مقابل هذه الخدمة، وفي حال الرفض فإنك تتلقى عبارات كلامية ونظرات غاضبة، وربما تتعرض لسيل من الشتائم.
فرصة لا تعوض
زحمة المرور يعدها المتسولون فرصة لا تعوض لممارسة أساليبهم، لكن انتشارهم لم يقتصر على المناطق المزدحمة فقط، فهم موجودون في كل مكان بالمدينة تقريباً، في أسواقها وأزقتها وقرب دور العبادة وأماكن أخرى.
ومن أساليب التسول التي رصدتها “الثورة”، مراقبة متسولات يحملن أطفالاً، ومباغتة الناس بطلب شرائهم لهن ربطة خبز فقط من دون طلب المال، ليقمن بعد ذلك ببيع ربطة الخبز، كما تبيع المتسولات بضائع رخيصة مثل المناديل الورقية أو البسكوت، ومنهن من يعرضن شهادات طبية ووثائق مزورة تفيد أن حاملها بحاجة إلى العلاج أو عملية جراحية.
ولطالما ارتبطت ظاهرة التسول الخاصة بالأطفال والكبار بساحة واحدة، هي الشوارع والأزقة، يمدون يدهم لا إرادياً ويطلبون الأموال مرددين عبارات استجداء ودعاء، وبينما لا تزال هذه الظاهرة مستمرة وتطورت حديثاً، لتستنسخ أساليب وطرقاً شتى.
الكثير من المواطنين الذين التقتهم “الثورة” يقولون: إنه لا مشكلة لديهم في تقديم يد العون والمساعدة المالية لمن يحتاجها، فهم باتوا ذوي خبرة ويعرفون مصاعب الحياة في حلب وغيرها بمختلف تجلياتها، لكن المربك فعلاً هو صعوبة التمييز بين المحتاج الحقيقي والذي يدعي الحاجة، ويرجح البعض أن الأخير غالباً ما يعمل ضمن جماعات منظمة أو يتخذ التسول مهنة تدر له الأرباح!.
فيما طالب كثير من المواطنين بسن قانون رادع لتجريم التسول، من دون التساهل في تطبيقه، كما يؤكد المواطن عبد القادر بقوله: إن أعداد المتسولين في تزايد مستمر، وأصبحت مهنة التسول ثابتة تدر عليهم مردوداً مالياً كبيراً، ويضيف : يجب ألا ننسى الأطفال، حيث يتم استغلال براءتهم من أجل عطف المواطنين.
في المقابل، يرجح أبو عوض، وهو رجل خمسيني، أن التسول تحول إلى تجارة منظمة من خلال شبكة يديرها شخص أو أشخاص يستأجرون مجموعة أفراد في كل منطقة لجمع المال تحت غطاء الحاجة، مقابل حصوله على نسبة ما ويخضع هذا النشاط لقوانين وأعراف يعرفها من يعمل به على ما يبدو.
أشكال متعددة
وبسبب تفاقم عدد المتسولين بصورة غير متوقعة خلال الآونة الأخيرة في وقت تفرض فيه الظاهرة تدخلاً سريعاً من قبل المعنيين، وحسبما أفاد شهود عيان، فإن بعض الأطفال المتسولين يتعمدون قطع الطريق بصورة خاطئة حتى يتسببوا في وقوع الحوادث لهم سعياً وراء المال.
والأدهى- كما يقولون- هناك من يقوم بتشويه أولاده، إما حرقاً أو كسراً، لزيادة استعطاف الناس وجني أكبر قدر منها، بغرض استدرار عطف المواطنين حتى يتمكنوا من جمع الأموال عن طريق التسول، وأن هناك عوائل بأكملها تتخذ من التسول مهنة لهم وحالتهم المادية جيدة، ويسكنون في أحياء راقية!.
أثر نفسي
الاختصاصية النفسية عفراء العريان، ترى أنّه أياً كان نوع التسول، وأياً كانت طبيعة الشخص المتسول وعمره، فإن للتسول أثراً نفسياً، وكذلك لممارسة أو امتهان التسول أثر كبير على نفسية الشخص المتسول وتطوره النفسي والاجتماعي، وإن أول ما يتأثر في الشخص المتسول ثقته بنفسه واحترامه لذاته، حتى ولو شعر أنه قادر على خداع الشخص الذي أمامه وإقناعه أنه بحاجة إلى المال، إلا أن هذا الشعور لا يعطيه أي نوع من الثقة بالنفس إلا ثقة آنية تنتهي بعد دقائق قليلة، لأن الشخص المتسول يفقد احترامه لذاته، حتى وإن كان يعاني من الفقر أم لا، ويسبب له الخجل والعار، ما يؤدي إلى التراجع في التطور النفسي وخاصة عند الأطفال.
وأضافت العريان: إن هناك أثراً آخر يكاد يكون الأهم، ألا وهو أن التسول يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب والضغط النفسي بسبب الظروف والمشكلات التي يقع فيها المتسول، مشيرة إلى أن أكثر ما يثير القلق أن فئة المتسولين تنفصل عن العائلة أو المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة استغلال هذه الفئة، وخاصة الفئة السكانية الأكثر ضعفاً، مثل النساء والأطفال، ويكونون أكثر عرضة للتحرش أو للاستغلال الجنسي والإدمان.
إحصائية غير نهائية
معاون مدير الشؤون الاجتماعية والعمل بحلب محمد بركات، أوضح بدايةً أن الظاهرة منتشرة، منهم من يتخذها كمهنة سريعة لكسب المال خاصة الكبار، ومنهم من لديه إعاقة جسدية أو ذهنية، أو أيتام أو فاقدو رعاية.
وقدّر بركات أعداد المتسولين بحلب، وفق إحصائية غير نهائية، عبر فريق عمل المديرية بعد التحرير بنحو 375 طفلاً دون العشر سنوات، ونحو 60 امرأة، و50 رجلاً من كبار السن، لمعرفة الأسباب والدوافع، التي جعلت هؤلاء يمتهنون هذه الظاهرة، وكذلك معرفة أماكن سكنهم.
ويتم العمل حالياً على إنشاء دار للتسول والتشرد بالتعاون مع المنظمات الإنسانية لفاقدي الرعاية وتعليمهم مهناً تناسبهم، وبالتوازي إلحاق من لديه عائلة بعائلته، عدا عن النشاطات التوعوية التي تقيمها المديرية أيضاً بالتعاون مع المنظمات في 6 مناطق مختلفة بحلب، تستهدف الأطفال تحديداً.
وبخصوص التعامل القانوني مع الظاهرة، أكد بركات أن المديرية تتابع هذه الحالات وتصطحب الأطفال إلى القصر العدلي لعرضهم على قاضي الأحوال الشخصية، إذ يتم التعامل مع كل حالة على حدة ومعالجتها قانونياً، مشيراً إلى أن هناك تنسيقاً مباشراً مع النيابة العامة للتعامل مع أي حالة طارئة، وأن هناك حالات عدة دون 10 سنوات تم تحويلها إلى دار التسول وكفالتها.
الجدير بالقول: من الممكن أن تؤدي هذه المسألة إلى تفشي ظاهرة أشكال العنف ضدّ الطفولة، وتوصلنا إلى كارثة مجتمعية من الصعب وضع حلول لها في حال صارت سلوكاً لدى أفراد المجتمع، وما يترتب عنها من مخاطر مستقبلية.