أدبُ الاغتراب في وجوه المغيّبين قسراً..  الغربةَ المألوفة أشدُّ وقعاً منها في المطارات  

الثورة – عمار النعمة: 

لم يغادروا الوطن أبداً حين كانوا خارج حدوده وترابه، لأنه كان في قلب ونبض كلّ منهم.. ألم يقل الشاعر المهجري ذات يوم: في قلوب المغربين جراح حملوها على الجباه الجعاد

وما أشبه الأمس باليوم، حين حمل بعض المبدعين جراح الوطن معهم حيث الغربة، وكانت الكلمة الثائرة سلاحهم بوجه الطغيان والاستبداد ودعماً للشعب المتطلع إلى فجرغده.

كتبوا وأبدعوا وهم في الداخل والخارج.. من منّا لا يعرف خالد خليفة وروايته (مديح الكراهية) أو خيري الذهبي أو فواز حداد، وغيرهم كثيرون.

أدب الثورة والاغتراب يعكس مشاعر التمرّد والحنين، ويمزج بين الألم والأمل في تجربة إنسانية عميقة، فهو ليس مجرد سرد للأحداث السياسيّة، بل هو تصوير لحالة وجدانيّة يعيشها كل من اضطر إلى مغادرة وطنه، أو وجد نفسه في مواجهة أنظمة قمعيّة.

صحيفة الثورة كان لها وقفة مع ثلة من المبدعين، الذين كانت الكلمة سلاحهم سواء داخل الوطن أو خارجه.. فكانت اللقاءات التالية:

تجربة ممتلئة بالأسئلة

نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب بدمشق الكاتب والناقد محمد منصور قال عن تجربته: بداية إن أدب الثورة امتزج بمفهوم الاغتراب عن الوطن، لأن حجم الإجرام والقمع والملاحقات والاعتقالات التي مارسها النظام المخلوع بحقّ من يشكّ مجرد شكّ أنه متعاطف مع الثورة، كان كبيراً.. وبالتالي أصبح الخروج من الوطن ضرورة للبقاء على قيد الحياة، وليس لممارسة النشاط الثوري فقط.

لكن لم يمتزج مفهوم الاغتراب عن الوطن بالحنين والشّوق إلى العودة للديار، كما رأينا في مدرسة أدب المهجر مثلاً، ذلك أن الوطن تحوّل إلى بؤرة للخطر اليومي ومسرحاً للموت المجاني والعشوائي، وبالتالي جاء أدب الثورة ليجرد الوطن من هالته الرومانسية، مصوراً طبيعة الحياة المستحيلة فيه، والتي تزداد شروطها اللا إنسانية يوماً بعد يوم، أو ليصور صعوبات رحلة اللجوء وأخطارها وملابساتها، ويحضرني هنا عملين روائيين جميلين لكاتبين شابين، الأول: “أشباح لندن لعبد الحسيب زيني، والثانية: “هوامش الحب والحرب” لعبد السلام الشلبي، عملان رائعان يصوران الكثير من تفاصيل الثورة، ثم البحث عن منفذ للخروج من الوطن والحصار.

اذاً ليس في أدب الثورة اغتراب بالمفهوم الرومانسي، بل اغتراب قسري يبحث عن النجاة من موت مجاني أو قبضة أمنية لا تجد أي مشكلة بعد اعتقالك في جعلك رقماً في مقبرة جماعية.

بالتوازي مع تيمة رحلات اللجوء والخروج من الحصار، هناك كتّاب عملوا خلال الثورة على تفكيك بنية نظام الأسد البائد، وقدموا رؤى استشرافية مهمة عن أسباب بقائه وطبيعة بنيته الطائفية الصلبة، يبقى أبرزهم فواز حداد في العديد من رواياته الذائعة الصيت (السوريون الأعداء) و(جمهورية الظلام).

ولا ننسى أن الروائيين المخضرمين من أمثال فواز حداد والراحل خيري الذهبي ونهاد سيريس ظلوا مشغولين بمقاربة وتشريح الواقع السوري من الداخل أو استعادة الذاكرة بتفاصيلها الحميمية في كل رواياتهم التي كتبوها خارج سوريا، كنوع من التشبّث بالوطن وليس الحنين إليه.. فكتب خيري الذّهبي روايته الدمشقيّة العذبة (الجنة المفقودة: من القنوات إلى بساتين كفرسوسة) التي كتبها بعد خروجه من سوريا، مصوراً في سياق تفاصيل سيرته الذاتية وطفولته في دمشق عذاب السوريين التاريخي مع توقهم إلى الحرية.. كما استعاد نهاد سريس في روايته (أوراق برلين) صورة مدينته المدمرة حلب في مرآة إعادة إعمار برلين ثقافياً وعمرانياً.

لقد شكّل أدب الثورة أكبر انفتاح للسوريّين على العالم من خلال رحلات اللجوء والاندماج في مجتمعات جديدة، وعلى أنفسهم من خلال مراجعة قضايا وانتكاسات بلدهم، بعيداً عن مقص الرقيب البعثي والبسطار العسكري الأسدي المخلوع، الذي داس كل قيم حرية التعبير طيلة عقود وقمع الأدب والفن والصحافة، وبعيداً عن النزوع الرومانسي لمفهوم الوطن الذي دمرته شراسة الحرب، فجاءت تجربة أدب الثورة تجربة ممتلئة بالأسئلة الجديدة والصدمات الحضارية، والبحث عن صورة وطن حقيقي، بعيداً عن وطن الشعارات الكاذبة والتمجيد المسعور للحاكم، وعن السجون والمسالخ البشرية، والفساد الذي يحرك كل مفاصل الدولة ولهذا شكلت نقلة وانعطافة حادة جداً في مسار الأدب السوري سواء في الرواية والقصة أو في الشعر بغثه وثمينه.

 غرباء.. من دون عبور

بدورها الشاعرة مروة حلاوة، تحدثت أن الغربة ليست دائماً سفراً أو منفى، أحياناً تكون الغربةُ في البيت ذاته.. في اللغةِ التي طالما آمنّا بها، نحن الذين لم نغادرِ المكانَ، لكنّ الوطن تغرّب عنّا، لنكتب داخل العاصفة وتحت العين الراصدة وفي الأزقّة التي لا يُؤمَن صمتُها.

في زمن الثورة.. لم يعدِ الأديبُ السوريُّ يختبر الاغتراب كمجرّدِ ابتعادٍ جغرافيٍّ، بل صار الاغتراب إحساساً داخلياً ومناخاً مقيماً في الروح، حتّى كأنّ الوطن انكمش على ما لا يشبهنا، وانحسر عن معناه الحقيقي ليغدو سؤالاً: ما هو الوطن..؟ هل هو ملاذٌ يحتوينا أم وحشٌ يطاردنا؟! هل ما زلنا ننتمي؟ وهل نكتبُ من هذا الانتماء أم من مُكابدته؟ من بقيَ في الداخل لم يكن بمنأى عن الغربةِ بل ربّما كان أكثر من ذاقها! لأنّ الغربةَ بين الجدران المألوفة أشدُّ وقعاً من الغربة في المطارات.

نحن الذين كنّا نكتبُ ونحن نسمع أصوات الرصاص والقذائف في الشارع، ونشمُّ رائحة الاحتراقِ في القصيدة.. كنّا بين أهلنا لكنّ القصيدةَ وحدها كانت التي تفهمُنا.. في كل خطوةٍ كنّا نتحسّس الكلماتِ كما يتحسّس المنفيّ خريطة طريقه والنازحُ أطراف خيمته.

كلُّ كلمةٍ كُتِبتْ كانت توازناً مريراً بين الرغبةِ في قول الحقيقة وإرادةِ النجاة.

ثم جاءت الغربةُ الأكبر لا من مغادرة المكان، وإنّما من غياب الأحبّة، فاغتراب أهلنا وأصدقائنا في بلاد الشتات وخيام النزوح حوَّلنا إلى غرباءَ داخل حدود الوطن.

فما قيمة الجغرافيا حين تُفرّغُ من وجوههم.. من ضحكاتهم.. ومن الأمان؟..

صرنا نشعر وكأنّنا نحن المنفيّون لا أولئك الذين عبروا البحار.. وأنّ علينا أن نمسك عمود الخيمة حتّى لا تقتلعها العاصفة.

نحن الذين قصفتهم الطائرات وهي تعبر فوق بيوتهم قبل قصفها أهلنا في المدن المحرّرة أو المحاصرة بالرعب واتّهامات الخيانة.. أصوات تلك الصواريخ فجّرت قاع وجداننا قبل أن تتفجّر في عماراتهم الشهيدة، فنستشهد أكثر منهم وينجون أكثر منّا.. يقولون: إنّ القتيل لا يسمع صوت الرصاصة التي تدخل رأسه، وفي الحرب أدركنا أنّ هذا الصوت يثقب روحَ الشّاهد على الجريمة.. درسٌ لا ُيشرى بمال بل يترسّخ بالدم والفقد.

ذلك الرعبُ لم يرحمْ وذلك الحنينُ لم ينطفئ بل صارا وقوداً للحيرة والتشظّي ومرآة لعزلتنا الجبريّة، حتّى كأنّ حدود البلاد نفسَها انقلبت، فلم تعدْ تعزل الخارجين عنها بل بدأت تطرد الذين تحصرهم داخلها معنوياً.

انكمشت الجغرافيا على الخواء، وراحت الروح تُدفع للخارج بينما يُجمَّد الجسد في الداخل، ليصير الوطن قشرةً والمواطنةُ اغتراباً مقلوباً.. في هذه العزلةِ لم يكن أمامنا سوى المجاز الذي أصبح جناح الشاعر في زمنٍ قصير النفَسِ مُطاردٍ للمعنى، ليكون الرمزُ يداً خفيّةً نكتب بها ما لا يُقال، ونحمله بعيداً عن غباء الرقابة الأمنيّة وبساطتها.

صرنا نتقنُ الصمت في اللغة ونلمّحُ أكثر مما نصرّح، ونحمل الرسائل أو تحملُنا في استعارَاتٍ لا يفهمها إلا من يعاني مثل هذا الوجع، وكأنّ القصيدة أصبحت رسالةً سريّةً نمرّرها عبر جدران المعتقلات نكتبها بدم القلب ونطويها في لفائف المجاز، لعلّها تصل من دون أن تُعتقل.. هذه الكتابة لم تكن رفاهيةً لغويّةً ولا حياداً بل اشتباكاً صامتاً.

كنتُ أكتب وأنا أشعر الأرض رخوةً تحت كلماتي، وأنّ المعنى قد يُفهم على غير ما أردتُ وقد يُوظف ضدي.. كم كان مرهقاً ذلك البحث عن الخط الحادّ بين الصدق والاعتقال، والذي يعادل المشي في حقل ألغام.. ويا لها من لحظةٍ فارقة عندما أدركتُ أنّ القصيدة التي كانت مجرّد مرآة، صارت أيضاً ملاذاً.. ملاذاً من الواقع.. من الناس.. وربما من ذاتي أيضاً، هكذا لم تعد مجرّد منتجٍ لغويٍّ بل صارت بُعداً موازياً أسكنه.. فيها أظلّ صادقة، وفيها أهرب من الصدق حين يكون مميتاً.

هي غرفتي التي لا تفتشها السلطات، ودفتر مذكّراتي السرّيّة، وصديقتي التي تعرف أننّي لست بخير دون أن أقول.

ربّما هذه الغربةُ رغم قسوتها صنعتْ نصوصاً أكثر صدقاً، نصوصاً مشبعةً بالتوتّر والحنين، مكسورةَ الروح لكنهّا شديدةُ الحياة، لأنّها كُتبت تحتَ الخطر، وجاءت من شاعرٍ لا يملكُ سوى أنْ يكتب، ولا خيارَ له إلّا أن يظلّ حرّاً داخل القصيدة.. فنحن لا نكتب لنعبّرَ عن الألم فحسب، بل لنجدَ لذاكرتنا طريقةً للنجاة، فحين يعجز الوطن عن احتضاننا لا يبقى لنا معادلاً له إلّا القصيدة، وحين غُلّقَتْ في وجوهنا الحدودُ، فتح المجازُ أبوابه، ومنحنا جناحين عصيّين على رؤيةِ السجّان.. ومع أنّنا لم ننجُ من الغربة، لكنّنا تعلّمنا كيف نَسكنُها بشِعرٍ لا يطوله المنفى.

آخر الأخبار
إلغاء ترخيص شركة "طلال أبو غزالة وشركاه" في سوريا إثر تصريحات مسيئة محافظ حلب: تعزيز القيم الأخلاقية وتطوير الأداء المؤسسي تعاون بين التعليم العالي وسفير فلسطين لتطوير معهد "فلسطين التقاني" وزير الدفاع يعزي أسر شهداء الجيش العربي السوري ويواسي المصابين اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق بأحداث الساحل تعقد غداً مؤتمراً صحفياً حول نتائج عملها وزير الإعلام: الحكومة تعمل بجهود حثيثة لنزع فتيل التوتر في السويداء الشائعات.. وجه الحروب الآخر وزير المالية يؤكد استمرار صرف رواتب العاملين في السويداء من دون انقطاع وزير التعليم العالي: دعم البحث العلمي أساس البناء والنهضة ليث البلعوس ينفي تهم التأزيم: لسنا طرفاً في مؤامرة ورفضنا تحويل السويداء إلى ورقة ضغط "الفرش البارامتري".. في معرض لطلاب الهندسة المعمارية بحمص بحث توسعة المدينة الصناعية بحسياء على 20 عقاراً أهالٍ من طرطوس: سوريا الجديدة واحدة موحدة من دون تقسيم " الثورة " في جرمانا ... إصرار على ألا تنكسر الحياة الوحدة الوطنية.. خارطة طريق السوريين نحو العبور الآمن الاستثمار في الأوراق المالية.. فرص ومزايا لتوظيف مالي طويل الأجل السويداء بلا خدمات باراك: دمشق نفذت تعهداتها ولم تخطئ في أحداث السويداء "حرب الكلمة".. بين تزوير المعنى وتزييف الحقيقة أسعار جنونية للشقق السكنية رغم الركود الحاد!