الثورة – غصون سليمان:
الدور الحقيقي للمغتربين في تطوير التعليم والبحث العلمي، وتعزيز النظام التعليمي السوري من خلال دعم القطاعات الحيوية، لم يكن مجرد دراسة رصدته بعناية ودقة الدكتورة نبال عيسى الملقي- كلية العلوم الصحية – جامعة دمشق، ضمن أعمال مؤتمر “الدولة السورية الجديدة، الذي نظمه المركز العربي الديموقراطي في برلين مؤخراً، برئاسة الأستاذ الدكتور عبد الله المجيدل، وحمل عنوان: المغتربون ركيزة أساسية في إعادة بناء المستقبل”.
وإنما سلطت هذه الدراسة الضوء على الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه المغتربون السوريون في إعادة إحياء هذا القطاع، من خلال استثماراتهم المادية والمعرفية.
وحول مضمون البحث وأهمية طرحه في خضم التحديات الكبرى التي طالت النظام التعليمي والبحثي في سوريا، تؤكد الدكتورة الملقي أن السؤال الجوهري اليوم هو: كيف يمكن توظيف رأس المال البشري السوري في الاغتراب كقوة فاعلة في إعادة بناء قطاع التعليم؟.
من هذا المنطلق، كان مدخل عنوان البحث، “تعزيز النظام التعليمي السوري من خلال دعم القطاعات الحيوية، ودور المغتربين في تطوير التعليم والبحث العلمي”، وذلك بهدف تشخيص واقع مساهمة المغتربين، وبلورة رؤية عملية لتفعيل أدوارهم في دعم التعليم والبحث العلمي، كركيزة مركزية لبناء الدولة السورية الحديثة.
تخصصات أكاديمية
وبينت الباحثة أن منهجية الدراسة ونتائجها اعتمدت على المنهج الوصفي التحليلي، وشملت عينة من 150 مغترباً سورياً من تخصصات وخلفيات أكاديمية ومهنية متنوعة.
حيث تم استخدام أداة مزدوجة لاستبانة مغلقة وفق مقياس ليكرت الخماسي، وأسئلة مفتوحة لاستخلاص رؤى معمّقة، كما استخدمت الدراسة أداة مزدوجة لجمع البيانات: منها استبانة مغلقة تعتمد مقياس ليكرت الخماسي.. وأسئلة مفتوحة لاستكشاف رؤى المشاركين ومقترحاتهم.
وقد تم بناء الاستبانة وفق أربعة محاور رئيسة هي: الدعم المادي والبنية التحتية، نقل المعرفة والخبرة الأكاديمية، التحديات القانونية والإدارية، إضافة إلى جملة المقترحات العملية وآفاق التعاون المستدام.
أهم النتائج:
وحول أهم النتائج التي أظهرها البحث تبين أن 68 بالمئة من المشاركين أكدوا استعدادهم للمساهمة في تطوير البنية التحتية التعليمية، خاصة في مجال التكنولوجيا التعليمية، و62 بالمئة عبّروا عن رغبتهم في نقل معارفهم الأكاديمية والبحثية لخدمة التعليم العالي والبحث العلمي في سوريا، فيما 72 بالمئة أبدوا قلقاً من التعقيدات القانونية والبيروقراطية التي تعيق التحويلات المالية والاستثمار المباشر، 65 بالمئة ربطوا تراجع حماستهم بضعف الثقة بالشفافية الإدارية للمؤسسات التعليمية.
تفعيل دور المغتربين
لتحقيق استثمار فعّال ومستدام لطاقات المغتربين.. خلصت الدراسة- حسب رأي الدكتورة الملقي- إلى حزمة مقترحات واقعية، يمكن تلخيصها في أربعة محاور رئيسية:
تقوم أولاً على تسهيل البيئة القانونية والإجرائية، وإصدار قوانين استثمارية مرنة خاصة بالمغتربين في القطاع التعليمي، تتضمن: إعفاءات ضريبية وتشجيعية، وضمانات قانونية لحماية أموالهم ومشاريعهم.
والأمر الثاني، تأسيس وحدة خاصة في وزارة التعليم العالي أو وزارة التربية تُعنى بشؤون المغتربين الراغبين في دعم التعليم، لتكون نقطة اتصال موثوقة، إضافة إلى تبسيط إجراءات التحويلات المالية من الخارج لمشاريع تعليمية وبحثية محددة، عبر البنوك المعتمدة، بضمانات قانونية.
وفي تطوير محور الشفافية والمساءلة أكدت الملقي على وجوب إنشاء منصة إلكترونية وطنية تعرض قائمة بالمشاريع التعليمية والبحثية القابلة للدعم، من حيث مراحل التنفيذ، تقارير شفافة عن الموازنات والنتائج.. تفعيل آليات رقابية مستقلة لمتابعة أي مشروع ممول من المغتربين، بمشاركة المجتمع المدني والجهات الرقابية الرسمية.
دعم إنشاء حاضنات بحثية
وركزت الدراسة في مقترحاتها على أهمية وضع آليات التعاون الأكاديمي، والتوءمة من خلال إيجاد برامج توءمة بين الجامعات السورية ونظيراتها في دول الاغتراب لتبادل الأساتذة، الباحثين، والمناهج، بالشراكة بين المغتربين والمؤسسات المحلية، لاحتضان مشاريع علمية مشتركة، تنظيم مؤتمرات علمية دورية تجمع بين الأكاديميين السوريين في الداخل والخارج لتبادل المعارف والخبرات، تشجيع المغتربين على الإشراف الأكاديمي المشترك على رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات السورية.
وفي المقترح الرابع: لفتت الدراسة إلى بناء شبكة تواصل استراتيجية مع الكفاءات المغتربة من حيث إنشاء قاعدة بيانات وطنية للكفاءات السورية في الخارج، تُصنَّف حسب، التخصص، البلد، درجة الاستعداد للمساهمة.
ولعل إطلاق مبادرة “سوريون للتعليم”، كمنصّة تطوعية تتيح للمغتربين تقديم دورات تدريبية قصيرة، استشارات، أو إشراف أكاديمي عن بُعد، كذلك لابدّ من تفعيل دور السفارات والملحقيات الثقافية كسفراء للتعليم السوري، يعملون على التواصل مع الكفاءات في الخارج.
خلاصة وتوصيات وبناء على ما تقدّم نوّهت الدكتورة الملقي بأن المغتربين السوريين ليسوا مجرد داعمين محتملين من الخارج، بل شركاء أصيلون في إعادة البناء المعرفي لسوريا.
إن استثمارهم يتطلب إرادة سياسية واضحة، إطاراً قانونياً محفزاً، ومنظومة إدارية شفافة وعادلة.
لذلك، أوصت الدراسة بضرورة سن تشريعات خاصة بـ”الاستثمار المعرفي للمغتربين”، إطلاق هيئة مستقلة تُعنى بمشاريع التعليم المموّلة من المغتربين، تطوير شراكات ذكية تربط المغتربين بالمؤسسات الأكاديمية في الداخل، فليكن المغترب السوري، بما يحمله من علمٍ وانتماء، حجرالأساس في بناء مستقبل تعليمي عصري وعادل، ولتكن الثقة والشفافية جسرالعبورإلى هذا المستقبل.
أخيراً.. المغتربون السوريون ليسوا مجرد ممولين خارجيين، بل شركاء فاعلون في إعادة الإعمار التربوي والعلمي.
إن تحويل “هجرة العقول” إلى “استثمار في العقول” يتطلب إرادة سياسية، وشفافية مؤسساتية، وشبكات تواصل ذكية، من أجل رسم ملامح مستقبل تعليمي متجدد، وعلمي مستدام في سوريا.