الثورة – إيمان زرزور :
في وطن مزّقته الحرب واحتضن الألم لسنوات، نشأ جيل من الطلاب السوريين وسط أنقاض المدارس، وصفوف جامعية فقدت دفئها، وحقائب أرهقها الثقل بين كتبٍ وأوجاع، فبين جدران تهدمت ومقاعد هجرتها الطمأنينة، تفتحت أعين هؤلاء على واقع قاسٍ، لكنّهم تمسكوا بالعلم كما يتمسك الغريق بخشبة نجاة، ورفضوا أن يُسقطهم الخراب في بئر العجز.
لم يكن طريقهم نحو التخرج مفروشاً بالورود، بل كان درباً محفوفاً بالخوف والنزوح، بالبرد والجوع، وبالفقد الذي لا يعوّض، ومع ذلك، حملوا كتبهم كما يُحمل السلاح في المعركة، وواصلوا دربهم في دروس تتحدى الواقع، وإرادة لا تنكسر، فقد كان التخرج بالنسبة لهم، ليس مجرد شهادة تُعلق على الجدران، بل إعلان نصرٍ شخصي في معركة امتدت لسنوات طويلة، معركة البقاء على قيد الحلم.
خاض الطلاب السوريون تحديات لم يعرفها أقرانهم في أي مكان من العالم، منهم من سار ساعات طويلة مشياً على الأقدام في غياب المواصلات، ومنهم من أكمل دراسته تحت ضوء شمعة أو بوميض مصباح هاتف في خيمة قماشية مهترئة، جامعاتهم كانت عرضة للقصف، ومدنهم خلت من مؤسسات التعليم، وامتحاناتهم تأجلت مراتٍ بفعل النزوح، أو الحداد على والد مفقود، أو طرق مغلقة بقرارالحرب.
ورغم اقتصادٍ منهار، وندرة فرص العمل، ومجتمع مثقل بالجراح، رفضوا الاستسلام، بل آثروا أن يكونوا أبناء الحياة، لا ضحايا الموت، عانوا انقطاع الكهرباء، واجهوا زمهريرالشتاء ولهيب الصيف في قاعات دراسية باردة أو خانقة، وتحملوا ضغوطًا نفسية لا تُرى بالعين: اكتئاب من فقد الأحبة، خوفٌ دائم، شعورٌ باللاجدوى، وضغط الانتقال من منطقة لأخرى في وطن مفكك.
كثيرون تخرجوا دون أن يحضر أحد من ذويهم الحفل… لأنهم فقدوهم. رُفعت شهادات رمزية لآباء وأمهات غابوا تحت الركام، وعلّق الخريجون صور إخوتهم الشهداء على صدورهم.
لحظة الوقوف على منصّة التخرج كانت لحظة نصر، نعم، لكنّها لحظة مثقلة بالغياب.
التصفيق كان حقيقياً، لكن القلوب بقيت صامتة، تنزف حنيناً لمن ربّاهم وسهر على تعليمهم، وغاب في اللحظة التي كان يجب أن يكون حاضراً فيها.
هكذا أصبح التخرج في سوريا مناسبة تتوشح بالدمع كما بالفخر، لحظة تختلط فيها النشوة بالحزن، وتتحول إلى رمزٍ للصمود في وجه الزمن.
لم يعد مجرد حدثٍ أكاديمي، بل شهادة حياة تقول للعالم :إن نورالأمل لا ينطفئ، حتى في أحلك الليالي.
هؤلاء الخريجون ليسوا طلاباً فحسب، بل أيقونات إرادة، ونماذج لعزيمة لا تُقهر، في وطن يتوق لإعادة البناء، خرجوا يحملون أحلامهم كما يحمل المُصلح أدواته، ليعيدوا بناء ما هدمته الحرب، ويثبتوا أن العلم أقوى من القذائف، وأن سوريا، برغم الخراب، قادرة على النهوض من تحت الركام، طالما أن فيها من لا يزال يحلم… ويتخرج.