الثورة – عمار النّعمة:
تُعد القصة الإفريقيّة القصيرة من أبرز أشكال التعبير الأدبي التي تعكس روح القارة وتنوّعها الثقافي واللغوي والعرقي، فمنذ القِدم، عرفت إفريقيا تقليداً ثرياً في السرد الشفهي، وكانت الحكايات تُروى في المجالس والمناسبات الاجتماعية، وتنتقل من جيل إلى آخر، حاملة في طياتها الحكمة، والقيم، والدروس المجتمعية، ومع دخول التدوين والكتابة إلى الحياة الثقافية، لم ينطفئ هذا الإرث، بل تجدد وتحوّل إلى أدب مكتوب يواصل التعبيرعن التجربة الإفريقية بطرق فنية معاصرة.
أصوات من قلب القارة
في هذا السياق يأتي كتاب “قصص إفريقية قصيرة”، الذي يضم عشرين قصة من مختلف أنحاء القارة السمراء، وقد صدرعن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، بإشراف الدكتورة نرمين النفرة، وتأليف تشنوا أتشيبي وكاثرين لينيت إينيس، وترجمة عدد من المترجمين: عبد الحكيم العدهان، إخلاص فياض، لبنى مسالخي، آلاء الصواف، عبدو ديب، ومحمد بشير عثمان.
تُبرز هذه المجموعة النطاق الواسع الذي تحتله القصة القصيرة في الأدب الإفريقي منذ إصدار الكاتب بيتر أبراهامز لمجموعته “العهد المظلم” عام 1942، حتى يومنا هذا، فالقصة القصيرة ليست مجرد وسيط فني عابر، بل هي أسلوب أصيل له شعبية راسخة في الوجدان الإفريقي، رغم رفض محرري الكتاب الادعاء الساذج بأن الرواية “غريبة” على القارة.
سرديّات عابرة للزمن
تؤكد القصص الواردة في هذه المجموعة أن القصة الإفريقية لا تلتزم بالضرورة بالشكل الكلاسيكي للقصة القصيرة، كما هو متعارف عليه في الغرب، فالرواية والقصة القصيرة في إفريقيا، رغم أنهما شكلان أدبيان حديثان، تستقيان جذورهما من الإرث الشفوي الشعبي، وقد أبدع الكتّاب الأفارقة في توظيف هذا التراث بأساليب حداثية، كما في قصة جومو كينياتا الشهيرة “سادة الأدغال” (Gentlemen of the Jungle)، التي تحوّلت من مجرد حكاية شعبية إلى عمل أدبي نقدي يتناول قضايا السلطة والاستعمار بأسلوب رمزي بليغ.ورغم وعي المحررين بقيمة الإرث الشفهي، فإنهم فضلوا عدم إدراج الحكايات التقليدية ضمن هذه المجموعة، واكتفوا باختيار قصص حديثة تُجسد الثراء الفني والمعرفي للأدب الإفريقي المعاصر.
التنوع الجغرافي والإنساني في القصص
يتجلى التنوّع الجغرافي والثقافي للقارة في هذا الكتاب بشكل واضح، فالقصص القادمة من شمال إفريقيا تتميز بجمال لغوي وروح صوفية تعكس غنى الخط العربي الإسلامي، بينما تنبض قصص الجنوب الإفريقي بعنفوان التجربة الإنسانيّة وفي الغرب الإفريقي، تتقاطع السرديات مع مواضيع الألم، والهويّة.
ورغم هذا التنوع الكبير، تنبض القصص بروح إفريقية موحّدة تتجاوزالحدود السياسية واللغوية، فعلى سبيل المثال، تكتب أليفة رفعت من شمال الصحراء، وأما آنا أيدو من جنوبها، قصصاً تتلاقى فيها مشاعر الأمومة، والخذلان، والخوف، في عالم تُحكمه السلطة الذكورية، وهو ما يعكس تضامناً إنسانياً عابراً للثقافات.
تكشف مقدّمة الكتاب عن تجربة شخصيّة مهمة للمؤلف أتشيبي، الذي لاحظ أثناء تدريسه للأدب الإفريقي في جامعة نيجيريا بنسوكا أن الطلاب لم يكونوا شغوفين بالقراءة، بل شعروا بالخوف من حجم الروايات المقررة، ومن هنا جاءت فكرته باستخدام القصص القصيرة كنقطة انطلاق مناسبة لجذب الطلاب إلى الأدب الإفريقي، بطريقة ممتعة وعملية، وهو ما يبرر طبيعة هذا الكتاب كمدخل تمهيدي ممتاز للقراء والدارسين على حدّ سواء.
في الختام: تُمثل القصة الإفريقية القصيرة نافذة فريدة لفهم الإنسان الإفريقي، بكلّ ما يحمله من تاريخ، وموروث، وتحديات، وأحلام، فهي ليست مجرّد أداة فنية، بل وسيلة لبناء الوعي الجمعي، وتعزيز التفاهم بين الثقافات، وحفظ الهوية في وجه التهميش والنسيان، ومن خلال هذه المجموعة القصصية، تتجلى إفريقيا بكلّ ثرائها وتناقضاتها، لتُقدّم للقارئ رؤية أدبية حيّة، نابضة، وإنسانية.