الثورة – تحقيق عبير القزاز:
سنوات طوال بين الأمل والشوق، والحرمان من وطن يلملم شتاته، قضاها جود شموط- طالب الهندسة، الذي تحول حلمه بالعودة إلى سوريا لكابوس يهدد مستقبله الجامعي، قضاها بين اللجوء والتهجير.. لم يكن يتصور أن يتحول حلمه بالعودة إلى وطنه، لواقع لم يتخيل حدوثه في أسوأ كوابيسه.
كان جود ينتظر الرجوع بفارغ الصبر، بعد أعوام، شهدت له بالتفوق والتميز في دراسته بالمملكة المغربية، إلا أن كل آماله تحوّل إلى كابوس أنهى كل طموحاته، وكسرها على صخرة القوانين التي مازالت فاعلة بعد سقوط النظام البائد.
رحلة لجوء وتفوّق
لم تكن أسرة جود مختلفة عن كثير من السوريين الهاربين والمهجرين من طغيان النظام المخلوع، كان أملهم بالبحث عن حياة آمنة هو هاجسهم الأول، كونها انضمت لصفوف الثورة منذ عام 2011، مرت العائلة بظروف قاسية لسنوات في لجوئها في المملكة المغربية.
ورغم معاناة اللجوء المريرة على الأسرة، برز تفوق الشاب جود منذ بداية عهده في المدارس الابتدائية، وأولها مدرسة العزيب أبقيو، ثم مدارس أخرى، وفي المرحلة الإعدادية تفوّق أيضاً في مؤسسة الأمة، التي أكمل فيها المرحلة الإعدادية، وحصل على المركز الأول في المدرسة بمجموع 18.7 من 20.
في الثانوية درس بمدرسة الإمام الغزالي، ثم انتقل لمدرسة ينبوع النور الخاصة التي شهدت له بالاجتهاد والتفوق، حيث حصل على معدّل جيد جداً، أهله لدراسة الهندسة.
يقول مروان خلوف من مدينة طنجة بالمغرب:
“كنت صديقاً وزميلاً لجود لأكثر من ست سنوات، وعرفته كطالب متميّز جداً، كان متفوقاً في مختلف المواد الدراسية، وقد جمع بين الجدّ والاجتهاد والانضباط، وقد أسسنا سوياً نادي “الهندسة والبرمجة” في سنة الثانوية العامة، وقمنا بتعليم عدد من التلاميذ أساسيات البرمجة، وخاصة بلغة (Python).
ويضيف: كان جود شخصاً سخياً في عطائه، دائماً مستعداً لمساعدة زملائه، ومرجعاً موثوقاً للعديد منهم، يتمتع بموهبة واضحة، وسريع الحفظ بدرجة مذهلة.
بعد ذلك تقدم جود إلى المسابقات التي تمت عبر منصة خاصة بالجامعات، وفعلاً تم نجاحه في امتحان الطب، إلا أن هاجسه الوحيد هو دراسة الهندسة مذ كان صغيراً، وتم قبوله في كلية هندسة الكهرباء، ثم انتقل للتسجيل في المدرسة العليا للمهندسين لدراسة السنوات التحضيرية لينضم لجامعة مرموقة أو في جامعة محمد السادس الخاصة كمنحة دراسية للمتفوقين.
إلى جانب تفوقه الدراسي واتقانه الفرنسية والإنجليزية، برع جود بلعب الشطرنج في نادي اتحاد طنجة للشطرنج، وشهد له أساتذته، ومنهم طارق حجاج، وياسين الريش في حفل تكريم أقيم له قبل عودته لسوريا، بالذكاء والالتزام والأخلاق العالية.
وأكدت إدارة النادي أن جود قدم نموذجاً تفخر به سوريا والمغرب على حد سواء، وقد حاز جود على بطاقة لا عب دولي (FIDE- ID) والتي تسمح له بلعب البطولات العربية والعالمية.
العودة والصدمة
لم ينتظر والدا جود طويلاً قبل قرارهم الحاسم بالعودة لوطنهم والمساهمة ببنائه من جديد، بعد سقوط النظام البائد، وبعد أن احتضنتهم المغرب أرضاً وشعباً، وكانت ملاذاً آمناً رغم الصعاب، كان لابد (للطيور المهاجرة من العودة لأعشاشها)، وهنا بدأت رحلة الصدمات، فقد توجّه والداه مباشرة بعد عودتهم، إلى وزارة التعليم العالي لمعادلة شهادته ومتابعة دراسته، ففوجئوا بالردود القاسية وباللامبالاة من موظفي الوزارة، رغم مراجعاتهم المتكررة لأربع مرات متتالية، ولكن من دون جدوى.
يقول جمال شموط- والد جود في حديثه لصحيفة الثورة: كانت المعاملة في غاية الفظاظة، وكأننا في عهد النظام البائد، ولم تكن هناك آذان صاغية لمطالبنا بمقابلة وزير التعليم العالي، رغم انتظارنا لساعات طويلة، وكنا نتمنى أن نحظى بمقابلته، ليكمل جود دراسته في مقاعد جامعة دمشق.
ويضيف: كانت الردود بغاية القسوة، ووضعتنا بين فكي كماشة، إما التعليم الخاص الذي لا نقوى على تحمل تكاليفه ولا تكاليف ربعه!، أو الانتظار حتى السنة المقبلة، ولكن تبين لنا بعد ذلك أن شهادة البكالوريا ستصبح قديمة، ولا يستطيع حاملها التقدم بها لمفاضلة الجامعات في سوريا.
من الجامعة إلى البكالوريا
ويكمل شموط: في ظل اللامبالاة، اقترح أحدهم علينا العودة بالزمن إلى الوراء، أي إلى إعادة الثانوية العامة، كي يتمكن من الالتحاق بركب الجامعة في السنة المقبلة!، وهكذا يكون قد ضاعت ثلاث سنوات دراسية، منها واحدة عند سفر الأسرة للمغرب واثنتان بعد نقل أوراقه إلى سوريا.
رغم كل ذلك لم تجد الأسرة سبيلاً بعد رفض مساعدتها إلا إتمام أوراق الثانوية، وهنا كانت الضربة القاضية والتي سدت كل أبواب الرجاء، فقد توجه الأب بالأوراق التي تم تصديقها من المغرب قبل خروجه، إلا أن هذا لم يكف، فقد تم رفض طلبه في وزارة التربية ووزارة الخارجية، التي طلبت تصديقاً من السفارة المغربية في سوريا، ولدى توجه جمال شموط إلى السفارة
فوجئ بأنها مغلقة جراء قطع العلاقات مع النظام البائد، ما اضطره لإرسال الأوراق إلى السفارة المغربية في لبنان أكثر من مرة مع أشخاص عدة، وأخيرا أرسلها، ودفع 800 ألف ليرة، ولكن كل هذا لم يفد لأن الأوراق تحتاج مدة شهرين كي تتمم، وكان وقت التسجيل في امتحانات الثانوية قد انتهى!
الحلم يتحول لكابوس
بمرارة وأسى، واسترجاع لذكريات يحيا على أمل تكرارها في المغرب، ويتمنى أن تعود، يقول جود الذي أصبح قعيد الفراش: لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت، ولو علمت أن كل هذا سيحصل لي، لنمت في شوارع المغرب، التي كانت أرحم بي، بل على العكس حققت هناك الكثير من الأمور، كنت لاعب شطرنج دولياً، وحققت بطولات عدة، عدا عن أني كنت من الأوائل هناك، لقد احتضنتني المغرب طوال اثني عشر عاماً على عكس وطني.
ويضيف: لم أتصور أن الأوطان تكون قاسية على أولادها بهذا الشكل، ولم أتصور أن دعوة اللاجئين للعودة، كان ثمنها مستقبلي الدراسي الذي عشت طوال عمري وأنا أحلم به..
برسم وزارة التعليم العالي
بين أحلام مؤجلة وأمنيات محطمة، وبين تساؤلات عن مستقبل يهدد شباباً لديهم المعاناة نفسها، هناك سؤال يطرحه جود وأسرته والكثير ممن عادوا، وهم يحلمون بواقع وردي: أين الوعود والعهود بسوريا أجمل على يد شباب المستقبل؟!.. وإن كانت وزارة التعليم العالي، قد صمت آذانها عن نداءاتنا، فمن لشباب سوريا؟!، ومن لبنائها في مقبل الأيام”؟!
وبعد أن عانى السوريون من حقبة سوداء كانت القوانين فيها تعمل لصالح طغمة حاكمة، بين تهجير وقتل وتدمير، والذي بدوره أدى لهوة وفجوة عميقة بين الشعب والحكومة البائدة، بدأت بارقة الآمل والثقة تعود بالحكومة الجديدة، لذلك نطالب بلزوم تفعيل قوانين تتماشى مع آمال الشعب السوري، وأن يكون هناك مبادرات وردود فعلية من قبل وزارة التعليم العالي كغيرها من الوزارات، فهي المؤهلة للبدء بمرحلة جديدة، تواكب طموحات الطلاب الجامعيين العائدين من بلاد اللجوء لإعمار سوريا الغد.
والسؤال الأخير: لماذا لم تسمح الوزارة لجود بتقديم الامتحان “بشكل شرطي”، سواء امتحان الجامعة أو البكالوريا، لحين إتمام تصديق جميع ثبوتياته؟!