العدالة الانتقالية بين المفهوم العام ومطالب الشعب في سوريا 

أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي 

مع انهيار أنظمة الحكم الاستبدادية أو انتهاء النزاعات الدموية، تبرز العدالة الانتقالية كأحد أبرز المسارات التي تسلكها الدول الخارجة من الأزمات لبناء مستقبل قائم على الإنصاف والمصالحة، وفي الحالة السورية، تبدو الحاجة إلى عدالة انتقالية حقيقية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، نظراً لحجم الانتهاكات التي طالت المجتمع السوري بأسره في عهد نظام الأسد البائد.

لكن ما بين المفهوم النظري للعدالة الانتقالية كما حددته المواثيق الدولية، ومطالب السوريين الذين عانوا لعقد ونصف من القمع والدمار، تظهر فجوة يجب معالجتها بعناية لضمان تحقيق عدالة لا تختزل في شعارات أو إجراءات شكلية، وتمنع الدخول في دوامة الانتقام وانتشار الفوضى.

فالعدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية التي تعتمدها المجتمعات الخارجة من الحرب أو الحكم الاستبدادي، بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتأسيس أسس جديدة لمجتمع ديمقراطي عادل، وقد اعتمد هذا المفهوم في عدد من التجارب العالمية، مثل جنوب إفريقيا، ورواندا، وتشيلي، ويوغوسلافيا السابقة.

“الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان” حددت في تقرير لها الأطر القانونية والمبادئ الأساسية التي ينبغي أن تستند إليها عملية تشكيل هيئة العدالة الانتقالية، وقالت إن تطبيق العدالة الانتقالية يبدأ بإصدار قانون تأسيسي من المجلس التشريعي ينظم هيكل الهيئة وآليات عملها، ويضمن استقلاليتها التامة عن السلطة التنفيذية، وأوصت بإنشاء محكمة وطنية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب، بدعم من خبراء دوليين، مع ضمان استقلال القضاء دستورياً.

وقالت إن العدالة الانتقالية تقوم على أربعة أركان، أولها “المحاسبة الجنائية” مؤكدة ضرورة ملاحقة القيادات العليا المسؤولة عن الجرائم، والثاني هو “كشف الحقيقة والمصالحة” عبر لجان متخصصة لتوثيق الشهادات وتحديد مصير المفقودين، مع الاستفادة من آليات المصالحة العرفية والمجتمعية.

وثالث هذه الأركان “جبر الضرر والتعويض” يشمل التعويض المادي والمعنوي، ودمج الضحايا مجدداً في المجتمع، إلى جانب تخليد الذكرى من خلال نصب تذكارية وبرامج تربوية، اما الركن الرابع فهو “إصلاح المؤسسات” من خلال التركيز على إصلاح القضاء، والأجهزة الأمنية والعسكرية، من خلال إعادة الهيكلة، وتفكيك الولاءات القديمة، واعتماد الشفافية والمساءلة.

ورأت الشبكة الحقوقية أن العدالة الانتقالية ليست نهاية المطاف، بل بداية لمسار وطني طويل نحو سوريا ديمقراطية قائمة على الحرية والكرامة، وأكدت أن نجاح هذا المسار يتطلب شراكة فعالة بين الضحايا، الدولة، المجتمع المدني، والدعم الدولي.

ويُعد استقلال القضاء شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة الانتقالية، ويجب تضمين ضمانات دستورية واضحة تؤكد استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، على أن تكون المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى على رأس النظام القضائي، الذي يتولى بدوره إنشاء المحكمة الخاصة بقضايا العدالة الانتقالية، وصياغة القانون الجنائي الذي يختص بمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

يقول “فضل عبد الغني” مدير الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان: “لضمان نجاح عملية العدالة الانتقالية في سوريا، من الضروري أن تعمل جميع آليات العدالة الانتقالية، بما في ذلك المساءلة الجنائية، وكشف الحقيقة وتقصي الحقائق، وجبر الضرر والتعويض، والإصلاحات المؤسسية، بصورة متوازية ومتكاملة تحت إدارة موحدة ضمن إطار هيئة العدالة الانتقالية. يتيح هذا النهج الشامل معالجة جميع أوجه الانتهاكات بشكل منسق، مما يعزز فعاليتها واستجابتها لاحتياجات الضحايا والمجتمع السوري ككل”.

تتمحور مطالب السوريين، كما تعكسها المنظمات الحقوقية، والمجتمع المدني، والشهادات الحية، حول عدد من الثوابت التي تشكّل جوهر عدالة ذات معنى “لا عدالة دون محاسبة الجناة”، إذ يرفض السوريون أي تسوية سياسية تعني إفلات أي من المسؤولين عن القتل والتعذيب من المحاسبة، خاصة المتورطين في الجرائم المنظمة والموثقة.

ورغم القرارات الصادرة عن رئاسة الجمهورية المتعلقة بتأسيس هيئات لـ “السلم الأهلي والعدالة الانتقالية” في سوريا، إلا منظمات حقوقية دولية منها “هيومن رايتس ووتش” حذرت من أن الصلاحيات المحدودة الممنوحة لتلك المؤسسات يمكن أن تُهدد بتقويض مصداقيتها وتُقصي العديد من الضحايا، داعية الحكومة السورية إلى ضمان مشاركة فعلية وواسعة للناجين والمجتمعات المتضررة في مسار العدالة الانتقالية.

وكانت اعتبرت المنظمة الدولية أن “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين”، يمكن أن تمثّلا نقطة تحوّل مهمة في كشف حقيقة الفظائع المرتكبة في سوريا وتحقيق المساءلة، لكن نجاحهما سيعتمد على الشفافية والانفتاح ومشاركة الضحايا وفق تعبيرها.

وعقب الجدل الذي أثاره مؤتمر “السلم الأهلي” الذي عُقد في مقر وزارة الإعلام في دمشق، وتنوع آراء السوريين بين منتقد للأداء وبعض السياسات التي أظهرت متورطين من رجال نظام الأسد في واجهة المشهد، وبين من اعتبر أن هذه التجاذب هو حالة طبيعية في سوريا، وتعطي بوادر إيجابية في حرية التعبير والانتقاد والتصحيح وتؤكد على أهمية الاستماع لصوت الشارع وضرورة تطبيق العدالة بمفهومها الصحيح لمنع الانزلاق في دوامة الفوضى والانتقام.

وبرزت أصوات لنشطاء وفعاليات سورية، أكدت على ضرورة الالتحام بين الشعب والسلطة، وتقديم الدعم الكامل لها في مراحل التأسيس المعقدة التي تخوضها على جوانب ومسارات اقتصادية وسياسية ومحلية وحقوقية أيضاً، ورفض أي أصوات تستثمر حالة التجاذب ومطالب ذوي الضحايا للتجييش ومهاجمة السلطة، لتحقيق أهداف لفئات لاتريد لسوريا التقدم ولا للسوريين إلا الفوضى.

ومما لاشك فيك أن العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد مسألة قانونية أو سياسية، بل هي “اختبار أخلاقي ومجتمعي” لمدى قدرة الدولة الجديدة على بناء عقد اجتماعي جديد، إنها تمثل الجسر الوحيد الممكن بين الماضي المأساوي والمستقبل المنشود، ولذلك، فإن أي عدالة لا تُنصف الضحايا، ولا تكشف الحقيقة، ولا تمنع التكرار، هي مجرد إعادة إنتاج للعنف بوسائل جديدة.

آخر الأخبار
سوريا: التوغل الإسرائيلي في بيت جن انتهاك واضح للقانون الدولي محافظ درعا يحاور الإعلاميين حول الواقع الخدمي والاحتياجات الضرورية جامعة إدلب تحتفل بتخريج "دفعة التحرير" من كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال وزارة الداخلية تُعلق على اقتحام الاحتلال لبيت جن: انتهاك للسيادة وتصعيد يهدد أمن المنطقة شريان طرطوس الحيوي.. بوابة سوريا الاستراتيجية عثمان لـ"الثورة": المزارع يقبض ثمن القمح وفق فاتورة تسعر بالدولار وتدفع بالليرة دور خدمي وعلاجي للعلوم الصحية يربط الجامعة بالمجتمع "التعليم العالي": جلسات تعويضية للطلاب للامتحانات العملية مكأفاة القمح.. ضمان للذهب الأصفر   مزارعون لـ"الثورة": تحفيز وتشجيع   وجاءت في الوقت المناسب ملايين السوريين في خطر..  نقص بالأمن الغذائي وارتفاع بتكاليف المعيشة وفجوة بين الدخول والاحتياجات من بوادر رفع العقوبات.. إبراهيم لـ"الثورة": انخفاض تكلفة الإنتاج الزراعي والحيواني وسط نمو مذهل للمصارف الإسلامية.. الكفة لمن ترجح..؟! استقطاب للزبائن وأريحية واسعة لجذب الودائع  إعادة افتتاح معبر البوكمال الحدودي مع العراق خلال أيام اجتماع تحضيري استعداداً للمؤتمر الدولي للاستثمار بدير الزور..  محور حيوي للتعافي وإعادة الإعمار الوط... حلم الأطفال ينهار تحت عبء أقساط التعليم بحلب  The New Arab : تنامي العلاقات الأمنية الخليجية الأميركية هل يؤثر على التفوق العسكري لإسرائيل؟ واشنطن تجلي بعض دبلوماسييها..هل تقود المفاوضات المتعثرة إلى حرب مع إيران؟ الدفاع التركية: هدفنا حماية وحدة أراضي سوريا والتعاون لمكافحة الإرهاب إيران.. بين التصعيد النووي والخوف من قبضة "كبح الزناد" وصول باخرة محملة بـ 8 آلاف طن قمح الى مرفأ طرطوس